
الدكتور مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي/ مكتب مراكش
الحلقة الأولى :
من باب الدأب كنت أعمل على نشر مقالات خفيفة تناسب زمن الصيف ، تتوخى التعريف ببعض المنجزات الفكرية العامة التي تتحدث عن مجريات الفعل السياسي المغربي إبان فترة الحماية والاستعمار وطلائع أزمنة الاستقلال .
في صيف السنة الماضية ( 2022م ) قضينا أوقاتا ماتعة مع مؤلف الأستاذ أحمد بن سودة : ( حديث المفتي ) وفي صيفنا هذا سنواصل المسير برؤية تتكامل ، وتجمع الحِقَب الزمنية المتتالية ، وسنخصص حديثنا فيه لعلَم فَذٍّ من أعلام الفكر والسياسة الوطنية على مدى سنوات الحماية والاستقلال ، والمقصود هنا هو الأستاذ محمد حسن أو بلحسن الوزاني رحمه الله ( 1910 \ 1978م ) .
شخصية مغربية قحة ، آمنت بالجانب المضيء من منجزات بلدها ، وانفتحت على معطيات حاضرها الفكرية ، وتطلعت إلى مستقبل حالم ، يحصل فيه المغرب على استقلاله التام بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، وتُمارَس فيه السياسة بعلم ونفع وأخلاق ، وتأثير متبادل وإيجابي مع بقية دول العالم ، وينعم فيها المواطن المغربي بالعيش الرغيد ، وبالمكانة المعتبرة بين الأمم ، ويكون الإصلاح والصلاح والتقدم والتطور هو المقصود دوما من وراء أي فعل سياسي مغربي……..
وللأسف لم يحصل كل هذا الأمر ، ولم يتحقق منه إلا القليل ، وظهرت بدله معيقات وعراقيل مفاجئة ومصطنعة ، وكلما ازداد حجم المكر والتآمر كلما ازداد الوزاني تشبثا بأفكاره ومواقفه ، باحثا عن واقع مفقود تحول إلى سراب في النهاية ، فانكب على الكتابة والتأليف ، وتحول بفضل أعماله الفكرية إلى مرجع أصيل دال على أحداث عصره ، ونُظٍر إليه على أنه مثال للسياسي المثقف المتحمس بنزاهة للعمل والعطاء من أجل أن يبقى المغرب شامخا ، ومتطورا ومؤثرا ، يَنشُد لحظات القوة ، ويرفض فترات الضعف والغصب والاستعمار .
مقاربتنا الجديدة للقضايا السياسية التي خاض فيها الوزاني سَتَنسل من كتاب الدكتور علي حسني في مؤلفه : ( محمد حسن الوزاني وإشكالية البناء الديمقراطي بالمغرب 1947 \ 1978 ) .
بداية كنت ولا زلت أدعو إلى قراءة مثل هذه الكتب لسبب بسيط وهو أنها تضم حقائق مذهلة عما جرى لبلدنا في فترات التاريخ السالفة ، تغيب عن ثنايا الروايات الرسمية ، بالإضافة إلى أن أصحابها كانت لهم رؤيتهم السياسية الخاصة ، ومشاركتهم الفعلية في مختلف الأحداث المؤثرة ، وتملكوا شجاعة فردية مكنتهم من الكشف عن مختلف الدسائس التي حيكت بالبلد إبان الاستعمار ، وباسم الاستقلال والسياسة ، والإصلاح………
ولهذا يحسن الاطلاع عليها ، والتزود من خلالها بمختلف الأفكار التي تساعد على فهم النسق السياسي المغربي بصفة عامة ، فهي على عكس ما نراه اليوم ، فلن يستطيع سياسيوه ومفكروه المزيفون أن يكتبوا عن تجربتهم كما كتب المتقدمون لفقدانهم كل المقومات الفكرية والمنهجية والأخلاقية التي تدفعهم إلى الإفصاح عن منجزاتهم ، ولانعدام الأهلية السياسية في شخصياتهم وأفعالهم وتجربتهم ، فالعمل السياسي الصحيح هو الذي يؤثر باستمرار ، ويستند على مقومات الوجود المختلفة ، ويُؤَسَّس على شرعية معلومة ، وصيرورة عملية متواصلة ، ويترك صداه الواضح في صاحبه ومحيطه ووطنه……وعليه أكرر وأدعو القراء للاستفادة مما أنجز من طرف جيل الاستقلال ، لأننا سنعيش على وقع جفاف فكري مرتقب ، وظاهر للعيان ، أصحابه ممثلون ومهرجون وذوو مصالح شخصية ضيقة ، لم يُحسِنوا شيئا صائبا وصادقا في حياتهم ، وليست لهم القدرة على الكتابة ، ولا الجرأة على الصدع بالحق ، ولم يصلوا إلى مرحلة النضج النفسي الذي يمكنهم من الندم والاعتراف ، وطلب الصفح والغفران ، والمجاهرة بالحق ، وقَبول المراجعة ، والعودة إلى الصواب ، فقد عاشوا على الزيف وسيموتون عليه ، وسيبقى يُروَى في سِيَرهم كلما ذُكِروا في الأرض وفي السماء .
الإرهاصات الأولى :
نشاط محمد حسن الوزاني ابتدأ في الظهور منذ عشرينات القرن الماضي ، ويُحسَب
على السياسة والفكر والصحافة ، كما يجمع في شخصيته أبعادا تمكنه من ممارسة حياته المجتمعية بنجاح ، فقد حافظ على انتمائه الوطني بالمعنى الثقافي الواسع ، وانفتح ليلم بالتيارات الفكرية الحديثة ، وتشبع بالفكر الليبرالي ، ونادى بالحرية النافعة والمؤثرة ، وكان همه هو إصلاح البلد وتقدمه وتطوره .
ربما بعض أفكاره من قبيل حرصه على الحياة الدستورية ، وتقديسه لمبدأ الحرية ، ولهفه على حدوث الإصلاح والتطور تجره إلى صف المعارضة ، وتقوده للاصطدام مع مختلف التيارات الفاعلة ، وقد فُهِم هذا وحَدَث ومع ذلك ظل الرجل متشبثا بعقيدته السياسية القائمة على التواصل والحوار ، واعتبار ما يصلح الوطن ويطوره هو الأساس في الميدان بغض النظر عن النزعات الفكرية المتعارضة .
على صعيد العمل الصحافي نذكر له مجموعة من التجارب ولكن أبرزها هي تأسيسه لصحيفة ( عمل الشعب ) باللغة الفرنسية و ( الرأي العام ) باللغة العربية ، وهما مساران حافظا لنا على إرث الوزاني وحزيه الشورى والاستقلال ، كما أظهرا إيمانه القوي بالعمل السياسي والصحافي المتكامل ، ودفعه إلى المشاركة والعمل ، وحبب إليه فعل الكتابة والتنظير ، وحثه على الشروع في تأسيس مشروعه ، ووضع برنامج فكري عبر نشر مقالات آنية ، تتعرض لمختلف الأفكار الطارئة بالنقاش والمتابعة والحرص على الجدوى المبتغاة ، موسعا وجامعا ومظهرا للمصالح العامة كما يراها الرجل ، وكما تحدث عنها في مختلف أقواله وكتاباته .
من مميزات شخصية الوزاني أنها كانت معتدلة ، ولا تومن ، أو تُعجَب بما يروج أمامها من تيارات وأيديولوجيات جديدة إلا بعد الدرس والفحص والتمحيص ، ثم بعد ذلك تؤسس رؤيتها المنسجمة مع الشخصية المغربية كما تتبناها ، وتراها ذات جذور تاريخية بعيدة ، تتطلع إلى الاستفادة مما جَدَّ في الحياة المعاصرة ، ويكون مناسبا للبلد ، وصالحا لإحداث التقدم والتطور المنشودين .
يمكن أن نلخص تلك الأفكار حسب الأهمية في نسقين كبيرين : الأول نسق سياسي ، ويقوم على مجموعة من المحاور الأساسية ، مثل مسألة الدستور ، وما تفرع عنها من مبادئ الحكم والشورى الديمقراطية عبر نماذج عامة من التاريخ البشري ، وعبر مقترحات خاصة بالمغرب ، وهذا ما يفسر نقده لكل مخالف قادم من الديمقراطية الغربية ، وما أسماه بمعالم الديمقراطية الجديدة .
والثاني نسق اقتصادي أو ما يصلح تسميته بالديمقراطية الاقتصادية ، وضمنها تعرض لمجموعة من السلبيات العالقة بالمعنى الاقتصادي للديمقراطية كشجبه لأصحاب الانقلاب والإقصاء وتهميش أبناء الوطن وأفكارهم بسبب الاختلاف وهو ما عبر عنه بلفظ الخيبة الوطنية ، كما تعرض لمفهوم الدولة الوطنية قبل أن ينهي حديثه بالكلام على مفاهيم التنمية والرقي والتقدم .
وبالمقارنة بين النسقين سنلاحظ أن الأهمية أعطيت للبناء السياسي للدولة الحديثة على اعتبار أنها السبيل الأساس لتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة ، وخاض كثيرا في توضيح قواعد البناء الديمقراطي الصحيح على مستويات متعددة ومتداخلة كما رأينا ذلك في عناوين الدستور والشورى والديمقراطية وغيرها مما ذكر في السابق .
( يتبع )
نعم خيبة أمل مجموعة من ” السياسين المثقفين ” بعد الاستقلال، وأنزياح القافلة الديمقراطية المنشودة عن مسارها الذي خططت له الحركة الوطنية، جعل محمد بن الحسن الوزاني ” رحمه الله” مضطرا للنضال سواء في صفوف المعارضة أو عبر العمل الصحفي لإيصال رسائل الحرية والعدالة الاجتماعية في إطار ديمقراطية من صنع مغربي خالص وهذا ماجعله لاينساق مع الأيديولوجيات الرائجة وقتها من فكر ليبرالي ” متوحش ” أو اشتراكية ماركسية مستوردة من اتحاد سوفياتي استطاع وقتها التأثير على أغلب الدول العربية. لك جزيل الشكر دكتور مولاي علي الخاميري على هذه ” الفسحة الصيفية” الجد مفيدة عن أعلام وطننا يجهلهم جيل اليوم.