ثقافة وفن

خير و سلام.

خير و سلام

وكنت تراني جثة هامدة ، والناس يتباكون حولي، ممدد أنا على لوح خشبي لا حول لي ولا قوة ، مسألة دفني رهينة بالفحص التقني للطبيب الشرعي . دائما أنا في حالة انتظار، حيا أو ميتا …
نواح الحاضرات يكسر هدوء البيت الكبير، وحشد من النساء لا سابق لي بمعرفته ، أحاول تفحص كل الوجوه ، لعلي أجد وجها مألوفا ، أو مغامرة مندسة بين الوجوه ، لكن دون جدوى …
كنت محقا يا أبي ذات يوم عندما قلت لي أن الأشياء تعرف بأضدادها ، لم أكن لأعرف نعمة الحياة لولا تجربة الموت هاته !
كان الحاضرون يستغربون هذا الموت الفجائي وهم يجهلون لون الموت ورائحته وتهجية حروفه ، ينسجون أقاويل كثيرة و تأويلات مختلفة …
ـ لم يكن المسكين مريضا .
ـ يقولون أن موته كان نتيجة ذبحة صدرية !
ـ أنا أعرف احدى قريباته التي أسرّت لي بأنه كان مصابا بمرض مزمن أخفاه حتى عن أقرب المقربين …
هذا حالنا ونحن … يموت الانسان وتنسج حوله ألف حكاية وحكاية .
مستمتع ـ أناـ بما يدور حول عالمي الجنائزي هذا ، ومتوهم من يعتقد موتي ، تبا للبعض من الناس يبحثون عن السبب والمسبب ، وعندما لا يجدونه يتفننون في صنعه !
وصل الطبيب الشرعي : دخل البيت الذي أنا ممدد بداخله ، سكت الجميع، الكل كان في حالة انتظار، خيل إلي لحظتها ـ وأنا المغلوب على أمري ـ أن كل من كانوا بالخارج ينتظرون خروج سروال ليلة الدخلة ، ليشهدوا على فحولتي وعلى عذرية رفيقتي ، عذرا على هذا التشبيه الخارج عن إرادتي !
بدأ الطبيب في القيام بعمله الروتيني ، يدور حولي ، يضغط بيده في مناطق متفرقة من جسدي ليفعل بي ما يشاء ، فماذا عساني أنا فاعل ؟ هو يعتبرني جثة لا حياة فيها ، وأنا أعتبره ميتا مع وقف التنفيذ .
نظر الي مليا ، تفحصني من رأسي حتى قدماي ، تمتم في خاطره :
ـ لا يظهر عليه أي أثر للموت ، جسم رياضي ، ورشاقة يحسد عليها هذا …
لمس باطن قدمي ، هذه منطقة حساسة في جسدي ، تجعلني أصاب برعشة شبيهة بمن وقع تحت تأثير صعقة كهربائية ، بقيت صامدا . ربما بفعلته هاته أراد أن يختبر موتي!
هاتف مفاجئ قطع حبل تفكيره ، كان يرد بدعابة مستفزة لا علاقة لها بالموقف الذي هو فيه ربما قلبه قُدَّ من حجر !
من جديد ، تبدأ عملية الفحص لعله يجد ما يدونه في تقريره ، أخيرا وبعد طول انتظار سلم للأسرة المكلومة تصريحا بالدفن …
من حين لآخر يتدخل بعض فاعلي الخير لطرح نصائح وأحاديث تقال في هذا المقام ، يسرعون في التحضير لمراسيم الدفن ، فقيه حارتنا يطالب الجميع بالإسراع مستدلا بحديث طالما ردده على مسامعنا : إكرام الميت دفنه !
وصل الغسال أخيرا دخل البيت الكبير ، بسمل وحوقل ، ثم تفحصني هو الآخر ، وأنا الممدد على لوح خشبي لا أستطيع أن أرفع عن نفسي ضرا ولا أن أجلب لها نفعا .
قرأ آيات من الذكر الحكيم ، حمل سطل ماء ، سكب بعضا منه ، أفقت مذعورا بعدما لمس الماء جسدي عبر سقف بيتي المهترئ ، وأنا أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ـ في سري وعلانيتي ـ أن يرفع عني هذا الكابوس الذي صار يتكرر كلما غفوت ولو للحظات…
محمد نشوان
مراكش

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock