هذيان ( قصة قصيرة )
محمد نشوان
تظل حبيس غرفتك ، قهوة سوداء و علبة سجائر لا يفارقانك ، لا تعرف ما يحدث خارج عالمك الصغير إلا من خلال الجرائد والمجلات التي تجتهد في اقتنائها كل صباح ، تقرأها بشغف كبير ، وتقضي ساعات طوال في هذه المتعة ، متعة التهام الصفحات ، أنت لا تفضل جريدة على أخرى ولا حزبا على آخر، وتردد دائما القول المأثور :
” ليس في القنافذ أملس”
تنتظر فقط وجود خبر يثير انتباهك ويفتح شهيتك للقراءة ، لكن لا جديد تحت الشمس !
تهتم كثيرا بالصفحات الرياضية وتهمل الأخبار السياسية لأنك لا تفهم شيئا في هذا الميدان …
وعندما تتعبك القراءة ، تأخذ قلما ، وتشغل ذهنك بحل الكلمات المتقاطعة ، فتحاول باجتهاداتك الشخصية معرفة صاحب ” أدب الغرابة ” وعاصمة بورما ومكتشف الجاذبية … وفي النهاية تبقى بعض الخانات فارغة معلنة عجزك اللغوي والمعرفي .
تشعل سيجارتك السوداء ، وتوهم نفس بانتظار شخص ما . وأنت على يقين بأن هذا الشخص لن يأتي ومع ذلك تنتظر ، قد يأتي !
عجيب أمرك ، تجعل من الإنتظار وقتا ثالثا تمضي به ما تبقى من يومك وتقتل به بقية عمرك !
تطرح على نفسك أسئلة بليدة ، وتفكر في متعة أخرى . تخصص كتابا تجمع فيه أخطاء الجرائد والمجلات . تبدأ عملية الصيد ويكون صيدك وفيرا … لكن بسرعة تسأم هذه المتعة وترمي الكتاب جانبا .
يطردك البيت لتعانقك الساحة ، ساحة جامع الفنا، الساحة عالم آخر قائم بذاته ، مقاهي بمختلف الأحجام والأسماء ، وأجانب يتمتعون بشمس مراكـــش الدافئة ، وبلياليها الحمراء، صور تلتقط من الأمام ، من الخلف ومن زوايا مختلفة . حركة يومية وموسم مستمر ، لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد !
تحدق في كل الوجوه والأشياء المحيطة بك ، وأخيرا تقذفك الساحة كأشياء لا صلاحية لها . تسير وحيدا على طول الشارع الرئيسي وقطرات المطر تبلل جسدك الخشن ، منارة الكتبية أمامك ، ودار البارود طلل شامخ بجانبك ، صارت سرابا وشاهدة على نكران البشر لرمزية الحجر.
تصل حانة زيـــزي الشهيرة ، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود هذا ما تقوله في خيالك، رواد الحانة أناس تبدو الطيبوبة على أقوالهم ويعلم الله خفاياهم، نكات هنا وقهقهات هناك ، وأنت وسط هذا الصخب وهذه الألوان والأشكال تبدو غريبا وبامتياز . تائه أنت بين حلم لم يكتمل وواقع لا يحتمل . داخل الحانة تنزوي في ركن بعيد عن المتطفلين ، تخاف من الآخر ، ورغم ذلك يجالسك أحدهم بداعي كسر جدار الوحدة ، فتمارس هواية التنكر التي تجيدها وبامتياز ، مرة في ثوب عالم فيزيائي وأخرى في ثوب طبيب نفساني ، خبير أنت بالمنوعات والممنوعات !
تترك الحانة و ضحكك يثير انتباه كل الرواد و جليسك فاقد للوعي وبشكل يثير الشفقة !