تعليم وتربيةثقافة وفنمجتمع

رحلة عبر الزمان

نورالدين بن شقرون/مكتب مراكش

كيف لي أن أنسى ذكريات الطفولة وشغبها، فلقد كنت شغوفا بكرة القدم، أستيقظ فجرا أيام العطل المدرسية واحاول التسلل خارج الدار هروبا من مسؤولية السخرة ومرافقة جدي “باسيدي”  إلى السوق.
حدث يوما ان تسللت إلى غرفة هذا الأخير لأتيقن أنه نائم، فلقد كان يرجع إلى فراشه بعد صلاة الفجر. قلت هذه فرصتي لأهرب والتحق بشلة الفريق، لكن لسوء حظي وجدت جدتي “للا” واقفة عند مدخل الدار تنتظرني. ياإلهي لقد ضبطتني متلبسا، قبلت يدها كعادتي كل صباح، ووضعت فوق رأسي ” الوصلة” الخشبية وعليها خبزتين شعير والباقي خبز القمح المعتاد، ولم تنسى تزويدي بفطور الصباح ملفوف في علبة كرتونية صغيرة وهو عبارة عن ثلاث من ” الگرص”  ورغيفة
” ملوية”.
حاولت جاهدا التملص من هذه السخرة الصباحية بذريعة أن الوقت لازال مبكرا وأن الفرن ” الفران” سيكون مغلقا، فكان جوابها أنه ماعلي إلا وضع ” الوصلة” أمام باب ” الفران” وانتهى الأمر، ولم تنسى ان تذكرني بأن ارجع قبل الحادية عشر صباحا ومعي خبز الشعير لأن ” “باسيدي” أوصى الجزار ان يحضر لنا ” طنجية ” واعتدنا اكلها بهذا النوع من الخبز.

حملت الوصلة إلى” الفران”، والتحقت بعدها بالفريق الذي كان بانتظاري أمام مقهى فرنسا بجامع الفناء.
اكتمل النصاب واتجهنا صوب ” باب الجديد ” مرورا ب ” للارقية”، وعند وصولنا فوجئنا أن فرقا سبقتنا إلى الملعب. وبعد أخذ ورد، سمح لنا بحصة زمنية كافية لإجراء منافساتنا الكروية.
الملعب غير معشوشب، ومليء بالحجارة، وكان لابد أن نشمر على سواعدنا لتنقيته وجعله صالح لللعب.
اللاعبون كثر، ولابد من ترضية كل واحد، هي فرصة لإظهار المهارات وإبراز المؤهلات من خلال توصيات مدرب الفريق” المعلم” والذي كان يتابع عن كثب مستوى كل لاعب، فلربما أتيحت الفرصة لأحدنا الالتحاق بفتيان إحدى الفرق  الرسمية بالمدينة الحمراء.
أما الكرة ” الهونگا”  فكانت تصنع  من جلد الماعز أو الأغنام وتطلى بشحم صناعي ” لاگريس” إلى درجة أن ضربة رأس واحدة بها قد تفقدك الوعي.
كرة من هذا النوع وارضية الملعب جد صلبة تجعل منك محاربا أكثر منك لاعبا.

قبل بدء المقابلة فتحت العلبة الكرتونية ووزعت محتوياتها، ولم يبقى لي إلا مضغة صغيرة من ” الملوية”.
هكذا كنا، فالواحد منا لابد أن له يقتسم ما لديه مع باقي الفريق ولعمري وكأننا كنا نحضر أنفسنا لتبني ” المنهج الاشتراكي ” والذي ابهرنا ودافعنا عنه فيما بعد طيلة حياتنا الثانوية والجامعية.

# المقابلة الأولى كانت مع الحياة الدراسية، واستغرقت ست عشر سنة دون أشواط إضافية ولا حتى ركلات ترجيح. الخصم، لم يكن سهلا، خطته الهجومية الجهنمية تطلبت منا تنظيم خط الدفاع والاحتياط من الأخطاء تفاديا للبطاقات الحمراء والتي تجعل الواحد منا مهمشا وغائبا لمباريات ينسى خلالها تقنيات المراوغات وحتى ضربات المقص. ومع الوقت تجرفك موجة الحشيش والمخدرات ومرافقة مجموعات “الهيبيين” والتي غزت مراكش لمدة طويلة.
الحمد لله ربحنا هذه المقابلة الاقصائية رغم بعض الأخطاء التحكيمية وانحياز الحكم لفريق القمع والسلطوية، مما أثر شيئا ما على بعض لاعبينا ولم يستطيعوا البقاء حتى نهاية المقابلة.

# أما مقابلتنا الثانية فكانت مع ” الحياة العملية”، جمعنا المدرب ورسم لنا خطة تكتيكية، ووصانا على تعزيز الخطوط الدفاعية، فالخصم له مؤهلات فردية وجماعية “والباطرونا” قادر على تسجيل أهداف حتى في الوقت الميت.
بدءنا المقابلة دون تشويق يذكر، ذلك أن الراتب لهزالته لايكفي حتى الاحتياجات الضرورية وفي المقابل كان ” الكورفي” عنوان هذا الوقت من المقابلة وكأننا في عصر العبودية.
كان لابد لنا من الصبر ترضية لأوضاعنا الإجتماعية، لكن مع مرور أطوار المباراة غيرنا من خطتنا في اللعب، وسجلنا هدفا ولا اروع في التقنية. وبهذا كسبنا الثقة في النفس وكانت جد ضرورية.
بعد هذا الهدف تحسنت أوضاعنا المادية وبدأنا في خوض سلسلة من النضالات لتحقيق ملفات مطلبية أخرى، وبهذا تقوى وجودنا داخل المؤسسة واسندت إلينا مسؤوليات كانت حكرا على أبناء فلان وفلان.
انتهت المقابلة بعد أكثر من ثلات عقود، وتم الاحتكام إلى الأشواط الإضافية وبعدها  الضربات الترجيحية.
خرجنا منتصرين على ” الباطرونا” بضربة جزاء واحدة، كان للحظ فيها النصيب الأكبر.

لكن عند رجوعنا تفاجئنا بتغييرات جدرية، فلقد تم ردم “الخطارات” وفيها كنا نستحم عقب كل مباراة.
أما باب الجديد فغزته البنايات الفندقية، وكثرت فيه أنواع من السيارات الفارهة منها رباعية الدفع وأنواع أخرى، وبقيت ابحث عن ” رونو R16″ الديبلوماسية وعن  ” الدوفين” الصغيرة الحجم لكن لم اجد لهما اثرا، وفي المقابل مرت أمامي ” رونو R4″ لكنها لم تكن إلا استعراضية.
أما فندق ” المامونية” والذي لطالما حلمت الإقامة فيه لأيام وزيارة الغرفة التي أقام فيها ” تشرشل” فإنه غير من واجهته وتم تعزيز الحراسة أمامه إلى درجة أن الزائر للوهلة الأولى يخيل إليه انه أمام ثكنة عسكرية.
وعندما بلغنا ” للارقية” وجدنا كل أزقتها تحولت إلى مقاهي ودكاكين للجملة.

وصلنا لحي ” القنارية”، معقلنا ، واكتشفت ان شارع الأبناك تحول بالكامل ولم يبق من دكاكين إصلاح الراديو والتلفزة الا النذر القليل.
تجار هنا وهناك يبيعون كل شيء ولا شيء و” فراشات ” يعرضون سلعهم على الأرض و يعيقون حركة المرور.
عندها تذكرت “الفران” ووصلة الخبز وان ” باسيدي ” سيكون بانتظاري واستعدت لاستقبال توبيخ لفظي أو حتى بعض الصفعات وكانت ضرورية.
أسرعت الخطى نحو” الفران”، ووجدت مكانه بنيت ” قيسارية “، جريت على الفور فاقدا الوعي نحو الدار  لأجد أجنبي خاطبني بالفرنسية وأخبرني ان الرياض أصبح دارا للضيافة السياحية.
ذرفت دموع الندم على تأخري كل هذا الوقت، ولم ادر كيف تم السطو على ” طنجية باسيدي” لتقدم لوفود اجنبية.

وقبل أن أغادر ترحمت على ” باسيدي ” و ” للا” وعن أناس كانوا ينتظرون ان آتي بالوصلة في وقتها لأنهم كانوا يشاركوننا الطنجية ومعها الحب والوئام.

مراكش : 2023/08/03

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock