الرياء في صدقة رمضان

في زمن أصبحت فيه الأضواء تغلب على الأفعال والمظاهر تطغى على النوايا النبيلة نرى مشاهد تتكرر كل عام مع حلول شهر رمضان الكريم حيث تخرج عدسات الهواتف قبل الأيادي لتوثق لحظات العطاء لا لوجه الله وإنما لوجه الشهرة والاستعراض مشاهد القفف التي توزع لا تخلو من بهرجة واستعراض وكأنها منّة على الفقراء وكأن من يقدمها ينتظر الشكر العلني والتصفيق وكأن العطاء صار وسيلة لاكتساب المجد في أعين الناس وليس وسيلة للتقرب إلى الله
نرى وجوهًا تنحني خجلًا أمام الكاميرات وعيونًا تفيض بما لم تستطع الألسن قوله نرى أيدًا تمتد في تردد لأنها تدرك أن الامتداد هذا قد يلتقطه هاتف ما وينتشر في كل مكان وقد يصبح صورة تتناقلها الصفحات ويصبح الإنسان موضوعًا للتعليق والنقاش والسخرية وربما الشفقة التي هي أقسى من الفقر ذاته
الصدقة في أصلها عطاء خفي لا يعلم به إلا الله ولا يحتاج إلى توثيق أو إعلان بل إن أعظم الصدقات تلك التي لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك لكننا اليوم أمام واقع جديد حيث يسود التصوير على الإخلاص وحيث توثق المساعدات كأنها إنجازات فردية وحيث أصبح المحتاج مادة للإثارة والإعجاب بدلاً من أن يكون إنسانًا له كرامة تستحق الحفظ
ما جدوى أن تعطي وأنت تنشر ذلك على الملأ ما الفائدة من صدقة يتبعها أذى نفسي ما القيمة الحقيقية لعطاء مشروط بالتصفيق والإعجاب هل باتت الشهرة أغلى من احترام إنسانية الإنسان هل صارت الكاميرا شرطًا من شروط الإحسان
إن من يعطي ليمنّ على الفقير قد ضيع أجره وإن من يعطي ليشعر بالتفوق على الآخرين لم يفهم روح العطاء وإن من يحول المحتاج إلى صورة تستدر العاطفة قد جرح كرامته من حيث لا يدري أو ربما يدري لكنه لا يبالي ما دام التصفيق قادمًا والثناء حاضرًا
المحتاج لا يريد أن يكون بطل مشهد درامي ولا يرغب في أن يتحول إلى محتوى رائج ولا يود أن يكون موضوع تعليق بين الناس ما يريده هو يدٌ تمتد إليه بستر ورحمة لا بكاميرا وتشهير هو قلب يفهم معنى العوز دون أن يجعله مادة للحديث هو إحسان لا يحمل في طياته استعلاء ولا يجعل من صاحبه نجمًا على حساب كرامة الآخرين
العطاء ليس مادة دعائية وليس شعارًا للظهور وليس وسيلة لاكتساب الإعجاب العطاء هو سر بين العبد وربه هو نعمة يرزقها الله لمن شاء ليكون بها رحيمًا وعطوفًا لا متباهيًا ومستعرضًا ولو أدرك هؤلاء أن الصدقة تفسد حين تشهر ولو علموا أن المروءة تعني ستر الفقير قبل إطعامه لما كان حالنا كما هو اليوم حيث يأكل الجائع لقمة ممزوجة بالذل حيث يقبل المحتاج المساعدة وهو يعلم أنها ستصبح عنوانًا متداولًا بين الناس
لو أنفق هؤلاء في صمت ولو أعطوا في خفاء ولو شعروا بمعنى الكرامة لما وجدنا وجوهًا تخفي نفسها من عدسات المتصدقين ولو أنهم عرفوا أن الله هو من يبارك العطاء حين يكون خالصًا بعيدًا عن الأعين لما وجدنا هذا الاستعراض الذي يقتل روح التكافل ويجعل الإحسان أقرب إلى التجارة منه إلى الرحمة
إن الصدقة لا تحتاج إلى جمهور ولا إلى عدسات ولا إلى تصفيق بل تحتاج إلى قلب سخي ونفس تعرف معنى الستر وإلى يد تعطي دون أن تنشر وإلى إحسان لا يعقبه منّ ولا أذى
للاإيمان الشباني