دردشة صيف : 2023م محمد حسن الوزاني : مواقف وأفكار
الدكتور مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي / مكتب مراكش
الحلقة الثانية :
من باب الدأب كنت أعمل على نشر مقالات خفيفة تناسب زمن الصيف ، تتوخى التعريف ببعض المنجزات الفكرية العامة التي تتحدث عن مجريات الفعل السياسي المغربي إبان فترة الحماية والاستعمار وطلائع أزمنة الاستقلال .
في صيف السنة الماضية ( 2022م ) قضينا أوقاتا ماتعة مع مؤلف الأستاذ أحمد بن سودة : ( حديث المفتي ) وفي صيفنا هذا سنواصل المسير برؤية تتكامل ، وتجمع الحِقَب الزمنية المتتالية ، وسنخصص حديثنا فيه لعلَم فَذٍّ من أعلام الفكر والسياسة الوطنية على مدى سنوات الحماية والاستقلال ، والمقصود هنا هو الأستاذ محمد حسن أو بلحسن الوزاني رحمه الله ( 1910 \ 1978م ) .
مسألة الدستور عند محمد حسن الوزاني :
البعد الفكري منها :
ينبغي أن ننظر إلى المسألة من زوايتين مختلفتين ولكنهما متكاملتان :
الزاوية الأولى هي زاوية عامة ، تتتبع كيفية تصور الفعل السياسي من لدن جميع سياسيي المغرب ، أو لنقل عند أهم التيارات والأحزاب في فترة الوزاني على أقل تقدير ، وهنا لا بد من التمييز بين الأنماط الثلاثة الآتية :
نمط اكتفى بالجانب الفكري مجردا عن الممارسة الميدانية المؤثرة ، وحاول أن يخط مواقفَه ووجهاتِ نظره الكبرى في برنامج أو شعارات وتوجهات ، تتخذ من الكتابة والتدبيج وسيلة التعبير الأولى ، وكان يظن أن فرص التطبيق ستأتي في المستقبل ، وهذا التيار بمثل هذا الفهم والفعل كان يغلب المبادئ والأخلاق التي يومن بها ، ويعتمد على نظرة لم تعد ذات جدوى في المجتمع المتغير .
نمط ثان أضاف إلى التصور الفكري الفعل الميداني الجماعي بدافع فهم سياسي سلبي تولد لديه باكرا يثبت بواسطته لنفسه الأهلية المطلقة للتحكم في العمل السياسي ولقيادة المغرب في تلك المرحلة ، فانطلق يؤسس الأذرع المختلفة التي تساعده على السيطرة والحكم ، وتقربه من دوائر القرار ، بل حاول أن يضحي بكثير من مصالح البلد الضرورية لكي يسود ويتحكم ، وكان لا يمانع في إقبار كل معارض ونفيه والتنكيل به ، وإزالته من طريقه ، وأحداث ما بعد الاستقلال الدامية خير مثال ناطق بالمآسي المقترفة .
نمط ثالث بقي فعله لا يتجاوز مقدار مصالحه الخاصة ، ويدور مع منافعه الذاتية ، فهو مع كل اتجاه يوفر له بغيته ، لا يومن ببلد ، ولا باستقلال ، ولا بتطور أو إصلاح ، جاب على كل الأنماط المذكورة ، وظل متبدلا ومتحولا تبعا لمصالحه ، فانتهى المشهد لديه بإزالة كل المميزات الممكنة بين الأحزاب المغربية ، وتسبب في رجوع أهل المبادئ والأخلاق إلى الخلف ، وبحدوث كم هائل من التحولات والتغييرات المتتالية في مفاهيم الأشخاص وأفعالهم وانتماءاتهم .
الزاوية الثانية وهي زاوية خاصة تلامس مفاهيم الدستور عند الوزاني رحمه إلله ، فليس الدستور عنده عبارة عن تنظيم للحياة وللعلاقات والسلط بين الأفراد والمؤسسات داخل المجتمع فقط ، وإنما هو فلسفة الحكم ، وفكر يتماشى مع الوجود ، ويسعى لإقامة سبل العيش بين أبناء البشر بسلام ، لا يمكن أن نتصور معنى للإنسان ، ولا للدولة الحديثة بدونه ، وعليه فقد أصبح الدستور مرادفا للإنسان وأحواله الفطرية والوجودية والكونية ، ودالا على ماهية الشعوب والأمم في الخريطة العالمية الجديدة ، وما كتابة الدساتير ، وتجويد مضامينها إلا من قبل مسايرة تلك الفِطَر والرغبات الطبيعية في دواخل الإنسان وعوالمه المختلفة ، وكذلك الأمر بالنسبة للتعلقات الذهنية والأهداف المقصودة من وراء كل كيان يسمي نفسه بالدولة .
لقد قدم الوزاني مطلب الدستور على مطلب الاستقلال ، وجعلهما شيئا واحدا ، وكل منهما نتاج للآخر ، فغداة المطالبة بالاستقلال في يناير 1947م طلب الوزاني بمسألة الدستور كذلك ، وربط هو ورفاقه بين المسارين عن طريق ما سماه بالجمعية التأسيسية ، وصرحوا بشعارهم المعروف : ( رائدنا هو الاستقلال وسبيلنا إليه الدستور ) فالاستقلال لحل مشكلة الحماية ، والدستور لتأسيس سلطة وطنية ديمقراطية حديثة كما يقول علي حسني .
الصورة كما قدمناها تنبيء بشيئين اثنين حركا عقل الوزاني ، وانتبه إليهما وجدانه وكيانه ، وحاول بعمله أن يحد تأثيرهما السلبي في مجرى الحياة المغربية بصفة عامة ، والحياة السياسية منها على وجه الخصوص .
الشيئان المقصودان يجمعان ما بين الخوف والطموح ، الخوف مما كان يصدر عن بعض الأشخاص والهيئات السياسية من تصرفات سلبية ، تحاول أن تفسد معنى المطالبة باستقلال المغرب المرجو ، فبعضها لا يهتم بمسألة الدستور بتاتا ، ولا يذكرها في أدبياته ، وليس عنده تصور يلامسها ، يجلي عبره وجهة نظره ، ويُناقَش فيها ، وبعضها الآخر استحوذت عليه ذاته ، وانطلق يبني لنفسه ولا يبني لغيره…….
والطموح الذي تولد لديه وأضحى من مقتنعاته الأساسية في نظرته ونظريته السياسية بعد أن رأى ما رأى حين كان يدرس في فرنسا ، وحين اطلع على ما اطلع عليه من فكر رواد الأنوار والحياة الحديثة الأروبية ، يروي علي حسن في كتابه : ( محمد حسن الوزاني وإشكالية البناء الديمقراطي بالمغرب 1947 / 1978 – الصفحة 15 / 16 ) ما يلي : ” غير أن مطلب الدستور لا يعني القَبول بأي دستور ، فالدساتير ليست كلها ديمقراطية ، أما الدستور السياسي الذي نريده للأمة ، ونرفع الصوت عاليا بالمطالبة به للشعب فيجب أن يكون دستورا حقيقيا صحيحا ، يصير للوطن ميثاقه السياسية ، ويصبح في دائرة الحرية والشورى والديمقراطية القانون الذاتي ، والنظام الأساسي للمغرب الحر……….” .
ومن باب الحرص أكثر عل تحقيق هذا الهدف الأسمى ، ومزيدا من تحصين فكرة الدستور نص الوزاني على مبادئه بوضوح كبير ، وطالب ومنذ شتنبر 1947 تاريخ تقديم مذكرة حزب الشورى والاستقلال بدستور يعكس طموحات الأمة ، ويتمثل المبادئ الديمقراطية…..
ومن أجل كل ذلك أقدم الوزاني على تغيير اسم الحزب المذكور إلى ” حزب ” الشورى الديمقراطي ” الذي ركز نضاله على إقامة ” ديمقراطية دستورية ” ودعا إلى انتخاب مجلس تأسيسي من طرف الشعب للسهر على وضع وصياغة الدستور المرتقب مع إشاعة المعرفة السياسية بين الناس ، وتربيتهم على مزايا الديمقراطية ومعاني الدستور ليحصل تحصين الذات والفكر ، ونصل إلى القدرة على الاختيار الحسن .
وهذه الخلاصة تعكس لنا تجليات الخوف والطموح لدى الوزاني من فكرة الدستور في أبعادها الفكرية والمعرفية كما أشرنا إلى ذلك سلفا ، كما أنها تشير إلى بعض التصورات السلبية التي بدأت تتشكل في أفق الساحة السياسية المغربية ، وأضحت تسعى لتحريف مفاهيم الاستقلال والدستور عن مسارهما الصحيح ، وربما النيات الخبيثة صارت تتحكم في المشهد السياسي ، وتدفع إلى المطالبة باستقلال مبتور ، وبدستور مغشوش ، وهو ما حدث فعلا ، ولا زلنا إلى الآن نعيش على آثاره الفظيعة على كافة المستويات ، فالاستقلال كان مشروطا ومجزءا ، والدستور كان ملغوما ، وفُصِّل على مقاس فئات معينة من الشعب المغربي ، ولو صار المشهد كما نادى به الوزاني وتصوره لما عشنا الصراعات والويلات السياسية التي أعقبت زمن الاستقلال بأوصاف وأفعال تتناقض مع الحرية والديمقراطية ، ولما عشنا سنوات الانقلابات والقمع والرصاص .
وحلمي يقول لو لم يقع التسرع لفائدة بعض التطلعات الذاتية والجماعية المحدودة ، ولو فكرنا جيدا في معنى الوطن والدستور وبطريقة إيجابية لحصلنا منذ خمسينات القرن الماضي على الاستقلال التام ، وبكل المساحات الجغرافية المفقودة لحد الآن ، ومن ضمنها صحراؤنا الغالية وبلا مشاكل وتضحيات الأجيال المتعاقبة وإلى يومنا هذا .
( يتبع )