قراءة وتحليل في الخطاب الملكي السامي…
بقلم الدكتور حسن بلوان*
جاء الخطاب الملكي لهذه السنة مختلفا وجريئا خالف كل التوقعات، خاصة وأنه يأتي في ظرفية وطنية مليئة بالتحديات، وإقليمية متقلبة، ودولية مضطربة، وهذا ما لامسه الخطاب الملكي بكل شجاعة ومصداقية.
إذن هو خطاب الطمأنة والمبادرة والصمود المتجدد، مع كل مناسبة يتجدد فيها التلاحم بين العرش والشعب المرتبطان بعروة البيعة الوثقى، باعتبارها قطب الرحى في وجود واستمرار الدولة المغربية العريقة والضاربة في جذور التاريخ.
لذلك سنتوقف عند المحاور الثلاثة التي تناولها الخطاب على الشكل التالي:
*1- قضية المرأة*
يمكن أن نسمي خطاب العرش لهذه السنة بخطاب الاعتناء الملكي بالمرأة المغربية والاحتفاء بها، بعد ما يقارب عقدين من إصدار مدونة الاسرة التي شكلت ثورة حقيقية في النهوض بوضعية المرأة، لكنها تبقى غير كافية ، إما لتجاوز بعض بنودها ، أو لعدم تطبيق مقتضياتها كاملة لأسباب سوسيولوجية.
لذلك جاء الخطاب الملكي صريحا في الدعوة إلى:
– تفعيل المؤسسات الدستورية المرتبطة بالمرأة بغية تحقيق المساواة والمناصفة التي جاء بها دستور 2011.
– الدعوة الى التطبيق الصريح لمقتضيات المدونة والالتزام بمقتضياتها.
– الدعوة إلى تغيير ومراجعة بعض البنود التي تجاوزها الزمن، وهو ما يعني أن الملك محمد السادس استجاب لمطالب مجموعة من الأحزاب والفعاليات المدنية والمنظمات النسائية، لإضفاء المزيد من الحداثة على مدونة الاسرة، باعتبارها مدونة للرجل والمرأة والأسرة بكاملها.
– تمكين المحاكم والأجهزة القضائية المعنية بالأسرة من الموارد المادية والبشرية لحسن التطبيق الصارم لبنود المدونة
أعتقد ان تغييرات جوهرية وثورية ستخضع لها مدونة الأسرة وفق هذه المبادرة الملكية، لكن بإشراك الجميع من فقهاء وقانونيين ومعنيين بقضايا المرأة ، وفق اجتهاد إسلامي يراعي تطور المجتمع المغربي، ودون القفز عن الثوابت الدينية للمملكة التي يؤتمن عليها الملك بصفته أميرا للمؤمنين، وقد كرر جملته الشهير قبيل إصدار المدونة سنة 2003 *”لن أحل ما حرم الله ولن أحرم ما أحل الله*”.
*2- قضايا الاقتصاد الوطني*
انتقل الخطاب الملكي للحديث عن الوضعية الاقتصادية للمغرب في ظل التقلبات الخارجية والداخلية، وأبرز الجهود المضنية التي تقوم بها الدولة من أجل التخفيف على المواطن المغربي عبر مجموعة من المبادرات، تصب في إطار الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية الإجبارية، مع الدعوة إلى إخراج السجل الاجتماعي الموحد في أقرب الٱجال.
أشاد الخطاب الملكي بصمود الاقتصاد الوطني أمام تقلبات الجفاف وتداعيات كوفيد والأزمة الدولية (الاوكرانية) دون أن يسميها، وذلك من خلال مجموعة من المبادرات:
– البرنامج الوطني لدعم الفلاحين وساكنة العالم القروي
– توجيه الحكومة بضمان تدفق السلع والمواد الاساسية والاستمرار في دعمها عبر تفعيل المقاصة
– محاربة اي احتكار أو تلاعب بالاسعار لضمان استقرار القدرة الشرائية للمواطنين
– تبسيط الحكومة لمساطر استقبال الاستثمارات الاجنبية خاصة في هذه الظرفية المتقلبة، والتي اختارت فيها مجموعة من الشركات الاستثمار في المغرب الآمن والمستقر كوجهة مفضلة وذات جاذبية.
لكن هذه الجهود المضنية التي تبدلها الدولة المغربية للتخفيف على المواطنين ، يتهددها خطر العراقيل المقصودة التي يهدف أصحابها الى تحقيق أرباح شخصية أو مصالح خاصة، لذلك وجه العاهل المغربي لمحاربة هذه الظواهر بلغة واضحة صارمة.
وهي دعوة موجهة إلى السلطات والمؤسسات المختصة، بإنفاذ القانون حتى تبسط سلطة الدولة لحماية الاقتصاد الوطني من جهة وحماية القدرة الشرائية للمواطنين.
فإذا كان المواطن المغربي يستحق الأفضل والعيش الكريم، كما جاء في الخطاب الملكي، فلا بد من محاربة أصحاب المصالح الشخصية الضيقة الذين تنتعش أرباحهم وقت الأزمات.
والملاحظ أن هذا التحذير الملكي جاء بعد سرد مجموعة من المنجزات والإجراءات التي قامت بها الدولة المغربية ، للتعافي الاقتصادي والدعم المادي المباشر للفئات الهشة، لكن هذه الجهود تصطدم بمثل هذه العراقيل المقصودة التي تضر بصورة المغرب لدى المستثمرين الأجانب ، كما تؤثر على جاذبيته ، وبالتالي تعرقل جميع إجراءات النهوض بالاقتصاد الوطني في هذه الظرفية الحساسة.
وعليه يمكن أن نستنتج أن هناك إجراءات صارمة سترى النور بعد الخطاب الملكي لحماية الاقتصاد الوطني والحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، ولا نستبعد أن هناك بعض الرؤوس المسؤولة عن هذه العراقيل ستسقط قريبا، كما نتوقع ان تكون هناك انفراجات قريبة ، وبشكل تدريجي على مستوى الأسعار خاصة في الطاقة والمواد الاساسية.
*3- قضية العلاقات المغربية الجزائرية*
مرة أخرى كان الخطاب الملكي شجاعا وجريئا من خلال العودة الى دعوة الجزائر على أعلى مستوى لطي صفحة الخلاف المفتعل، حيث توجه مباشرة الى الرئاسة الجزائرية لبداية عهد جديد من التعاون والتٱزر المثمر بين البلدين، خاصة وان القواسم المشتركة بين الشعبين قوية الى حد التلاحم ، وأن الحدود بين الشعبين لا يمكن أن تلغي الاخوة والروابط العائلية بين الأشقاء المغاربة والجزائريين.
إذن هي دعوة صادقة أخرى؛ ويد ممدودة من العاهل المغربي للأشقاء في الجزائر من أجل التعاون ورأب الصدع ، وتجاوز مخلفات الماضي، كما دعا المغاربة إلى مواصلة حسن الجوار والحفاظ على الحس الأخوي اتجاه أشقائهم الجزائريين.
انتهز العاهل المغربي مناسبة عيد العرش ليؤكد أن المغاربة سند للجزائر ، ولا يمكن الا أن يكونوا إلى جانبهم في جميع التحديات المشتركة، وأن هناك جهات مشبوهة تحاول دائما إثارة نار الفتنة بين الشعبين والبلدين ، ولا يمكن السماح بالإساءة إلى الجزائر وشعبها ومؤسساتها، لذلك أكد جلالة الملك أنه حريص كل الحرص للخروج من هذا الوضع، الذي لا يخدم مصالح الشعبين الشقيقين.
لكن من المؤسف أن التعاطي الجزائري سيكون دون مستوى التطلعات، وجميع المؤشرات الحالية توحي بأن سياسة الٱذان الصماء ستستمر، إن لم تدخل الجزائر في سياسة تصعيدية أخرى انطلاقا من مجموعة من الاتهامات الواهية غير المبنية على حجج ولا دلائل منطقية.
المهم الكرة الٱن في ملعب الرئاسة الجزائرية، ويظهر أن سياسة التجاهل هي سيدة الموقف، من قبل الرئيس الجزائري في مقابلته الاعلامية الدورية مع إحدى القنوات المقربة من مربع السلطة الجزائرية يوم أمس.
وفي الختام أشاد الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 23 لعيد العرش المجيد بتلاحم العرش والشعب في قضية الوحدة الترابية ، وما تتميز به من إجماع في وجدان جميع فئات الشعب المغربي قاطبة.
*استاذ باحث في العلوم السياسية