دردشة صيف : 2023م محمد حسن الوزاني : مواقف وأفكار ( الحلقة السادسة )

يكتبها الدكتور : مولاي علي الخاميري – أستاذ جامعي/ مكتب مراكش
الحلقة السادسة :
من باب الدأب كنت أعمل على نشر مقالات خفيفة تناسب زمن الصيف ، تتوخى التعريف ببعض المنجزات الفكرية العامة التي تتحدث عن مجريات الفعل السياسي المغربي إبان فترة الحماية والاستعمار وطلائع أزمنة الاستقلال .
في صيف السنة الماضية ( 2022م ) قضينا أوقاتا ماتعة مع مؤلف الأستاذ أحمد بن سودة : ( حديث المفتي ) وفي صيفنا هذا سنواصل المسير برؤية تتكامل ، وتجمع الحِقَب الزمنية المتتالية ، وسنخصص حديثنا فيه لعلَم فَذٍّ من أعلام الفكر والسياسة الوطنية على مدى سنوات الحماية والاستقلال ، والمقصود هنا هو الأستاذ محمد حسن أو بلحسن الوزاني رحمه الله ( 1910 \ 1978م ) .
الحلقة السادسة : حقيقة الشورى في الإسلام
أصالة البحث في أنظمة الحكم القديمة والحديثة تظهر عند الوزاني في كثير من المواضيع والمواقف ، ومن بينها هذا المبحث الخاص بحقيقة الشورى في الإسلام على اعتبار أن الدولة المغربية دولة عريقة ، لها جذور بعيدة في التاريخ ، ولها تراث ملحوظ ، مارست الحكم طويلا تحت ظل معطيات الدين الإسلامي ، وكونت تجربة ميدانية كبرى قائمة على تنظيم شؤون الأمة التنظيمية والسياسية ، ولهذا كان من الضروري تخصيص هذا المبحث للحديث عن حقيقة الشورى في الإسلام .
انطلق الوزاني في هذا المبحث الجديد من فرضية ثابتة وأصيلة ، تراعي أسس قيام الدولة المغربية على طول التاريخ ، ويرى أن المغرب بلد مسلم ، ونظام الشورى ليس غريبا عنه فكرا وممارسة كما كان وطُبِّق في زمن الخلافة الرشيدة مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات الزمنية والواقعية ، فقد أكد على أن دولة الإسلام كما يشير الدكتور علي حسن في كتابه : ( محمد حسن الوزاني وإشكالية البناء الديمقراطي بالمغرب 1947 \ 1978 ) إلى ( أنها ليست بعلمانية ، أي لا دينية ، وليست كذلك بلاهوتية ، بل أنها أقرب ما تكون إلى دولة فريدة تتحقق فيها وبها مصلحة الدين والدنيا معا ) .
ومَن حُقَّ له أن ينادي بالشورى في الإسلام لتكون رافدا من روافد الحكم في المغرب ، فقد كرر مرارا ضرورة ( نظام ديمقراطي صحيح مستمد من حكم الشورى في الإسلام لا من الأنظمة الأجنبية المستوردة التي لا تصلح لنا كأمة مغربية مسلمة ، ودولة تعلن أن دينها الرسمي هو الإسلام ، وأنها تنهج سياسة البعث الإسلامي في سائر المجالات والقضايا الوطنية ) .
لطالما تحدثتُ عن اتزان محمد الوزاني رحمه الله في فكره ، وفي معالجاته لقضايا المغرب ، فبالرغم من أنه جال على كثير من الدول ، وتشبع بالثقافة الفرنسية خصوصا ، واطلع على كثير من تجارب الأمم الدستورية الحديثة إلا أن كل ذلك لم يدفعه إلى خلع جلبابه المغربي ، والارتماء في أحضان الآخر ، فالعكس هو الذي حصل ، ومعرفته الجديدة جعلته أكثر تشبثا بأصالة بلده ، فانطلق في رحلة المواءمة بين طبيعة الدولة المغربية والمستجدات الفكرية الجديدة على منوال قَلَّ نظيرُه بين مفكري عصره .
صورة ( الراعي والرعية ) التي احتفل بها الوزاني كثيرا ، واستعملها بدل عبارة الحاكم والمحكوم المتداولة كانت بسبب الاستعمال السياسي لكلا المقولتين ، فهو يرى أن الحكم البشري شابه الظلم والجبروت والطغيان ، وتعَدَّى هذ الحد ، وانزلق إلى مرتبة تأليه الحكام ، وادعاء الحق الإلهي ( المناقض للعقل وللإيمان ، أما الإسلام فجاء بصورة أنبل لعلاقة الحاكم بالمحكوم وهي أن الحكم رعاية شبيهة برعاية الله لأنها مستمدة منها ) .
وعلى ضوء المقارنات التي قام بها الوزاني بين مجموعة من أنظمة الحكم فقد وصل من خلال استنتاجاتها المختلفة إلى مجموعة من النتائج المهمة على صعيد أحقية نظام الشورى الإسلامي في الوجود والحكم والتطبيق :
في مقدمة تلك النتائج ما اصبح لديه من قبيل المسلمات ، ألا وهو ربط نظام الشورى القديم بشعارات الديمقراطية الحديثة ، فالدولة الإسلامية هي دولة أخلاقية لها دستورها المكتوب ” القرآن ” الدائم الخالد ، والإسلام لا يفرق بين الدين والدنيا ، وبين الروح والمادة ، وبين العبادة والسياسة ، وهذا في صالح البشر والمجتمع ) .
ومن حصيلة تلك المقارنات كذلك ما قام به عندما وازن بين نظام الخلافة ونظام الجمهوريات المنتشر في زمنه ، ويرى أن تقييد الجمهورية بنص دستوري بشري يجعلها محدودة الأمد على عكس الخلافة ( فأمدها مقيد شرعا باستقامة الخليفة في تنفيذ القوانين الشرعية ، وتعبير سياسة الرعية ، فهي بهذا الاعتبار شبه ملكية مقيدة بالدستور ، وباختصار فالخلافة جمهورية بالانتخاب ، ملكية بالأمد ، فهي جامعة لمحاسن الرياستين ، وبهذه الصلة تكون نظاما طريفا ممتازا ) .
وذهب بعيدا في إبراز حقائق الخلافة ضمن المقارنات الواسعة التي اتكأ عليها الوزاني لإبراز محاسن الحكم في الإسلام ، يقول إن : ( الرياسة في السياسة لا تكون بالوراثة ولا بالتعيين ، بل هي منتخبة على أساس الشروط المرعية في الخلافة ، وأن الشعب هو مصدر السلطة الحاكمة بلا نزاع ، وأن وظيفة الرئاسة السياسية هي خدمة مصالح الأمة العامة بمقتضى الشريعة ، وأن نظام الحكم الإسلامي يقوم على الشورى ، وأن الرعوية مستندة على الحقوق التي منها حرية الرأي بجميع أشكالها ) .
يلاحظ أن الوزاني يُغلَق عليه الفهم الصحيح المطمور في دواخله أثناء العرض اللغوي في أحيان كما يستفاد ذلك من هذا النص ، فالرجل ذو ثقافة فرنسية رصينة تفوق مستوى معرفته باللغة العربية ، ولهذا يشعر القارئ بشيء من التباين بين صلب الأفكار ، وبين الأداء اللغوي التعبيري بلغة القرآن الكريم لدى الوزاني ، ومنه يُصاب القارئ بحيرة أمام الاختلاف بين المستويين المذكورين : مستوى الأفكار ، ومستوى الأسلوب المستعمل كما هو حال النص السابق ، فلن يتبين القارئ غير المتمرس شيئا واضحا وهو يتتبع النص الفائت مما يجعلنا أمام فرضيات عديدة تجعل مواقف الوزاني عرضة للنقد بسبب كثرة المقارنات ، وكثرة البحث عن إيجاد توافقات بين اختراعات البشر في مجال الحكم ، وبين تشريعات الله سبحانه وتعالى ، فعندما تعرض لكلمة ” دين ” لغويا أفاد بأنها تطلق على المُلك والسلطان والحكم ، كما تفيد كل ما يُعبَد به الخالق في المذهب والملة ، ويخلص كما يقول الدكتور علي حسن إلى أن العبادة هي جانب من الدين في الإسلام الذي هو أشمل لأمور الدنيا والآخرة ، على عكس كلمة ” religion ” التي تعني فقط الروحيات والعبادات ) .
واعتزازا منه بنظام الشورى في الإسلام كما فهمه ودعا إليه على أنه ( تقيد الحاكمين وتلزمهم بتطبيق مقررات رجالها…..) وأنها الأصل الرابع من أصول الحكم في الإسلام ، تأتي بعد الخلافة ، واعتبار الأمة مصدر السلطة الحاكمة ، ثم مبدأ رعاية المصالح العامة للناس بعد الشورى مع ضمان حرية الرأي ، فالشورى كما يقول ( جِمَاع الفضائل المدنية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية ، ففيها تتمثل جميع القيم السامية ، والمُثُل العليا للإنسان ، والمواطن الحق ، والواجب ، والعدل ، والحرية ، والعفة ، والاستقامة وغيرها مما كانت تأمر به الأديان والشرائع والدساتير……وتعني الشورى في اصطلاح العصر الديمقراطية الصحيحة المُثلى ، والآية ” وامرهم شورى بينهم ” تعني شرعا وسياسيا حرية الرأي ، وحسن الاختيار ، ولهذا يندرج في معناها ما يعبر عنه بالانتخاب…..) .
وبعد كل هذه التحديدات الطويلة لمفاهيم الشورى ، وكذلك المقارنات الواسعة التي قام بها الوزاني ، وبَيَّنَ عَبرَها قيمة الشورى في نظام الحكم الإسلامي انتقل إلى العمليات الإجرائية المتمثلة في أهل الشورى ، أو مفهوم النخبة ومجلس الشورى أو البرلمان ، فعلى الصعيد الأول حصر الشورى في كل شخص ( ناضج ، يستطيع أن يعطي رأيا صحيحا ، ولأن المشورة لا يُعتَدُّ بها إلا إذا جاءت من ذوي الرأي الناضج ، وذوي الخبرة بالأمور……..) .
ولتتمة الحلَقة اشترط أن يكون كل عضو في مجلس الشورى يعتبر نائبا عن مجموع الأمة ، لا عن طائفة منها ، أو دائرة انتخابية معينة ، والحزبية تنعدم داخل المجلس فلا ( يسمح بتكوين الفرق النيابية على أساس حزبي……) .
موقف يذكرنا بمناداة الوزاني بالمجلس التأسيسي عن طريق انتخاب أعضائه للسهر على كتابة الدستور ، أي أن مفهوم الشورى هو مبدأ عام ، وفي كل مرحلة يُفهَم على ضوء الأوصاف المناسبة ، والمضامين المطلوبة ، والإجراءات الضامنة للنجاعة ، فالإسلام منذ مجيئه أعْلَى من قيمة وقيم الاختيار الحر النزيه الذي يراعي المصالح العامة للناس ، ولهذا اشترط اختيار وانتخاب الأخير للناس في كل ما يتعلق بتثبيت معاني الشورى وإقامة نظام الحكم على خلاف الغرب الذي لم يحصل على هذه المزية إلا في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد ومع دولة مدينة أثينا ، وتجددت في الدساتير الحديثة إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، أما الإسلام فكان ( سباقا لتشريع النظام الديمقراطي ) منذ بداياته الأولى كما يقول الوزاني ، ومن يطالع نماذج من مؤلفات المسلمين الخاصة بنظام الحكم في الإسلام سيقف على كثير من التجارب والمنجزات والابتكارات المؤيدة لما ذهب إليه الوزاني ، وأنصح القراء هنا – وعلى سبيل الإشارة الخفيفة – بمطالعة كتاب الطرطوشي : ( سراج الملوك ) .
( يتبع )