مقالات واراءوطني

التأثيرات النفسية للكوارث والفواجع على الإنسان

د . مولاي علي الخاميري / أستاذ جامعي – مكتب الجديدة

نعيش هذه الأيام على وقع فاجعة الزلزال الذي ضرب مراكش وأحوازَها وما جاورَها من المناطق ، ولاسيما الجبلية منها .

وقد نجم عنها أعداد كبيرة من الجرحى والموتى ( شهداء عند ربهم ) وتركت في النفوس حسراتٍ وندوبا وأحزانا وخوفا وهلعا وذعرا يصعب استئصاله بسهولة وفي مُدَدٍ قصيرة لتعود الحياة إلى ما كانت عليه .

المشكل في هذه الكوارث الفجائية أنها تُباغِث الإنسان ، بأضرارها المتعاظمة ، ولاسيما على مستوى النفوس ، وتَقلِب حياة الإنسان رأسا على عَقِب في لحظات زمنية قصيرة ، وربما تكون تلك الآثار قاسية وطويلة جدا .
الناس يختلفون في تلَقِّي الصَّدَمَات وكوارثها حسب السن والنفس ، والفكر ، والمعتقد ، والعلاقة الجامعة بينهم وبين الحياة ، وأظن أن الأطفال ، وأصحاب النفوس الرهيفة هما الأشد تضررا لأسباب عديدة ومتنوعة ، فالأطفال يواجهون هذا الوضع القاسي لأول مرة في حياتهم ، ويكون الوَقْعُ عليهم شديدا وغائرا إذا لم يسارع الآباء والمحيط والمجتمع إلى الشرح والتفسير ، والعناية ، وإبداء عزيمة قوية على صعيد التحمل والصبر ، والرغبة في العودة إلى الحياة العادية بسرعة ، ويضاف هنا عامل التربية الذي يتغافل عن مثل هذه الفواجع المفاجئة ، ولا يُدخِلُها في مفاهيم الحياة أثناء فترات التربية والتوجيه للأطفال .

أما أصحاب النفوس الرقيقة فهم يُشِبهون الأطفال في التأثر ، ويتجاوزونهم في حجم الآثار الظاهرة ، فالإدراك إذا كان متعقلا وواعيا بما يجري ، ولم يرَ فيه إلا جانبَ السلب والإذاية فإن جروحه لن تَندَمِل بسهولة ، وربما سَتُعَمِّرُ طويلا ، وستُشاهَد في بقية الحياة على شكل انكماشات نفسية ، وتوهمات ، وتوجسات تُحول حياة الكبار إلى فواجع ومصائب متتالية ودائمة ، ولا زلنا على صعيد مراكش ونحن في اليوم الرابع بعد الفاجعة نشاهد أن الناس لا زالوا في الخلاء والعراء يبيتون وهم متوجسون ، وحَيَارَى ، وتائهون ، وباحثون عن سبل النجاة ، ولا يقدرون على التمييز بين الصحة والكذب في كل المجريات أمامهم .

ينبغي أن نعيد النظر في تربية أنفسنا ، وتربية أطفالنا بما يتلاءم مع حقيقة الحياة في أفراحها وأطراحها وفواجعها ، فعندما نقارن بين ما حصل عندنا ، وما يحصل عند شعوب أخرى ، تتعرض للزلازل والكوارث بقوة وباستمرار سنقف على تباينات قوية ، تفرق بيننا وبينهم لأنهم قد أدخلوا في سلوكهم وأحاديثهم ونفسياتهم وتفكيرهم مسألة حدوث الفواجع والكوارث ، ونراهم بجانب الأحزان والوقائع متعايشين ، ومقبلين على الحياة ، يستفيدون من تقلباتها في جميع تجليات حياتهم ، وهذا هو المطلوب والمرغوب ، فإن لم يكن بمقدورنا رد تلك المصائب ، ولحد الآن لا يستطيع العلم معرفة توقيتها وقوتها ومجال أنشطتها ، وحجم الآثار الناتج عنها فينبغي على الأقل أن نتهيأ نفسيا واجتماعيا لمواجهتها ، والحد من آثارها القاتلة على الإنسان في وجوده .

ما قيمة أن تستمر الحياة وهي كالحة ، لا نر من صورها إلا الهموم ، ولا نتملك وسائل المواجهة والتخطي بإيمان ورغبة قوية من أجل أن نستمر ونحافظ على الحياة التي نريد أن نحيا بالرغم من المآسي والفواجع .
مفاتيح الحياة وكيفية التعامل مع تقلباتها مفقودة الآن في واقعنا ووقائعنا ، وليس أثناء وقوع الحوادث الضخام فقط ، بل أصبحنا نطالع هشاستنا النفسية الموجودة في كل الميادين ، مما أدى إلى الإكثار من حالات الاكتئاب النفسي ، والخيبات الفكرية ، والإقبال على الانتحار في النهاية بدوافع تبدو في بعض الأمثلة واهية وضعيفة ، ولا تستحق أن ترتفع إلى درجات الصدمات المُؤذِية ، وأضحى المجتمع يعيش على صفيح مشتعل بالأزمات ، والناس فيه سُكَارَى وما هم بسكارى ، خائفون ، مُرتجِفون ، فاقدون للثقة ولطعم الحياة ، لا يتفوهون إلا بالشكوى من حياتهم وذواتهم ، وكأن يوم القيامة قد تحقق قبل أوانه للأسف الشديد .

نحن مسؤولون عما يجري ، والأقدار تجري علينا كما أراد ربنا ، شئنا ذلك أم أبيناه ، والحياة هي دار ابتلاء ، والإنسان يتقبل منها ما أضحى عنده من قبيل العادة ، وتأثيراته تأتي على مهل ، وتصيب الجميع وإن كانت من الفواجع والمآسي ، فأن يفقد الإنسان صلته بالحياة وهو واحد من أفرادها بسبب المرض والعجز وغيرهما هو من الفواجع العظام التي يشعر بها كل المكتوين بمضاعفاتها الداخلية والخارجية ، ويتم قَبولها ، والتعاطي معها حسب مقتضيات الأحوال والحالات .

وعلى العكس عندما تحدث الفواجع التي تنتشر بين الناس بشكل جماعي فظيع تراهم ينقلبون ، ويتغيرون ، ويتأففون ، ومنهم من ينسحب من الحياة بصفة نهائية……

هكذا يصنف الإنسان الكوارث الطارئة ، يقبل منها ما يريد ، ويرفض ما يشاء ، أو يتناسى وجود أنواع أخرى من الكوارث ، ولو عَمَّمنا على نفوسنا أثرَ المآسي المتربصة بنا في وجودنا وجوارنا وواقعنا لأدركنا الصلة الحقيقية بين الفواجع الفردية والفواجع الجماعية ، فالتعوق والفقر والحرمان كلها من الفواجع المنتشرة بيننا بشكل يومي ودائم ، يشعر بها أصحابها ، أما الآخرون فلا يبالون بها ، ولا يلتفتون إلى أضرارها ومآسيها الملاحظة .

العامل الثقافي بمعناه العام مسؤول عن الوضعية النفسية والواقعية التي تجثم على الناس وقت وقوع الفواجع بمستوياتها المختلفة ، وقد بينا سابقا أن مَن يظن الحياة سهلة ووردية ، أو أنها ستسير على نسق واحد هو وَاهِم ، ولهذا ينبغي أن نتعلم أساليب المواجهة الإيجابية لتلك التقلبات والابتلاءات التي تعد من حقائق الحياة الفردية والجماعية ، وعلى رأسها معاني الصبر والشكر ، والعمل المتواصل ، والتشبث بالحياة مهما كانت التضحيات ، ويعجبني هنا رأي المتصوفة المجدين الذين يعتبرون الحياة ابتلاء مستمرا بالمفهوم الإيجابي والسلبي ، فإن أقبلت الحياة بالمشتهى والمراد يجب أن يتعلم المرء كيف يهرع إلى الإكثار من شكر المُنعِم ، وإن أدبرت وأكثرت من لَسَعَاتِها ، وبَثَّت سُمُومَها يُوصَى بمواصلة الحياة وبالصبر والاحتساب ، وترقب الأمل الواسع الموعود ( لولا الأملُ ما أرضعت أمٌّ ولدَها ) فيخرج الإنسان من جميع الأحوال فائزا ، ومحافظا على كيانه ، ومحصلا على الارتياح النفسي ، ويفوز بمقام الرضى واليقين ، على عكس ما نرى في حياتنا المعاصرة التي تقوم على التناقض ، والنزوع إلى الاعتراف بوجه واحد هو الوجه المُظلِم ، فَأن يفرَحَ الآدمي يوما ، ويَسْخَطَ أياما فهذا ليس هو الحل ، وأن ينكسِر في لحظة ثم يستمر معه الأثر السلبي على مدى الحياة فليس من الأوضاع الناجعة الناجحة ، وأن لا يكون بمقدوره تغيير النفسيات ، والقفز على العوائق ، والاستفادة من كل حالة تمر به فهذه غفلة ليست بعدها غفلة أخرى ، ورَقدةٌ تشبه في استسلامها رَقْدَةَ الموتى .

تجربتي الذاتية المتواضعة علمتني أن الإنسان في حياته ينبغي أن يستعد استعداد لاعب الكرة ، فهو لا يعلم بالتدقيق كيفية حضور الكرة لديه ، ولا ما سيقع له على أرضية الملعب ، هل سينجح أم سيفشل ومع ذلك يواصل التدريب والاستعداد ، ويتوقع كل الحالات ، ويدفع بنفسه إلى المباريات دفعا ، ويتوسل بالإرادة ، ويحرص على النجاح والتتويج أثناء العراك واللعب ، والمسألة تتكرر في كل نزال : تدريب ، استعداد بدني ونفسي ، الإقبال على التمرين وخوض النزالات ، الأمل المتواصل في إحراز النجاح والفوز القريب البعيد .

ومن بوارق الأمل عندنا أن التراث الثقافي العربي غَاصٌّ بكيفية معالجة النفوس وقت الكوارث والفواجع ، بل إن بعض المؤلفات تحث على الاهتمام بالنفس دائما حتى لا تَحِيد عن معاني الحياة الحقيقية في أحوال الرخاء والشدة ، وكذلك الأمر في كثير من قصائد الملحون المغربي ، وأذكر من الكتب وباختصار شديد العناوين التالية :

– كتاب آداب النفوس لأبي عبد الله الحارث بن أسد المَحَاسِبي ، توفي سنة : 243 هجرية .
– كتاب عِدَّةُ الصابرين وذَخِيرة الشاكرين لابن قيم الجوزية ، توفي سنة : 751 هجرية .
– بعض مقالات ومواضيع الندوة العلمية التي نظمها المجلس العلمي المحلي بمراكش ، الصادرة سنة : 1443 هجرية ، 2021 ميلادية تحت عنوان : ( البلوى والابتلاء في التراث المغربي – سيدي يوسف بن علي نموذجا ) .

وسأسعى بحول الله وعبر حلقات قادمة إلى التذكير بأهم تلك المضامين والمواقف الفكرية والنفسية التي تعيننا على الفهم الصحيح للحياة مجتمعة ، وتزودنا بكيفية التعامل المتزن والضامن لصيرورة العمر بلا مضاعفات سلبية أثناء عيشنا مع تقلبات الزمان الإيجابية والسلبية ، وسأركز على لحظات الكوارث والفواجع لأنها الأظهر للعيان ، والأشد تأثيرا على النفوس ، والأسرع فَتكا بالإنسان .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock