السيرة النبوية العَطِرة سيرة متجددة في النفوس والقلوب والعقول
د . مولاي علي الخاميري / مكتب مراكش
النفس والقلب والعقل ثلاثية مهمة على صعيد بناء معرفة الإنسان وتطورها وتنوعها على مر العصور ، وقَلَّ أن تجد معرفة يقع عليها الإجماع من الثلاثة المذكورين بسبب الاختلاف في طرق التحصيل ، والتناوب على الريادة ، وتمسك كل باحث بالأحقية للعنصر المفضل لديه ، وقد يقع بذلك أخذ ورد في وسائل ومعاني المعرفة حسب المتداول في كثير من المعالجات العلمية .
وهذه التفرقة تختفي في دراسة السيرة النبوية ، ويقوم بدلها تكامل وتعاضد ، وتسابق للكشف والتعرف ، والاجتهاد في إبراز تفاطعات سيرة نبينا المتعددة بالوسائل المتاحة من الجهات الثلاث السالفة ، فلها إشعاع واسع في النفس ، ولها عشق متواصل يتجدد بفطرة وانجذاب داخل القلب ، ولها ميل وصلة وطيدة بالعقل قصد الإحاطة بما تزخر به من الأخبار والأحداث ، وبما تمنحه للإنسانية على درب التفكير والتمعن في الآيات والحقائق الكونية المختلفة ، وهو المشوار الملاحظ من لدن فئات كثيرة من الدارسين والعلماء والمفكرين في مشارق الأرض ومغاربها ، وعلى امتداد الأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلية ، ومن هنا تتولد وتنبع أهمية المعرفة السيرية ، ومشروعية العمل المستمر على تفاصيلها المُثبِتة للحقائق الكونية الصحيحة ، والدالة على النموذج الرباني الممنوح للإنسان عبر تاريخه الوجودي الطويل .
قديما كانت السيرة النبوية تُلقى بواسطة دروس وحلقات تتم في المساجد بمناسبة ذكرى المولد النبوي ، أو قدوم العام الهجري الجديد ، ويتم التركيز فيها على سرد مجموعة من الأحداث المتتالية طيلة حياة الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام ، لأن الغاية كانت هي تزويد المستمع والمتلقي بِكَم كبير من الأخبار والوقائع دون توقف ، أو تمييز فيما بينها على الأسس النسقية الفكرية والتاريخية المتحكمة في مسار تلك الأحداث وتأثيراتها المختلفة ، وكان المتلقون يتباهون فيما بينهم ، ويحتكمون إلى حصاد الكم ، فكلما كثر وتضخم كلما كان لصاحبه موقع في العيون الناظرة إليه .
وهذا الواقع القائم بُنِي على أسباب متعددة ، في مقدمتها أن تعليم النشء آنذاك كان له ممر واحد هو تلك الدروس والحلقات ، وأن المناسبات الدينية المتجددة مثلت الوسيلة المثلى للرجوع إلى أخبار السيرة النبوية ، بالإضافة إلى ذلك التباين الحاصل بين حظ الفرد المتعلم من علوم العصر ، وحظه من علوم الشرع والدين .
في وقتنا تغيرت جميع المعطيات المذكورة ، بالإيجاب في جوانب وبالسلب في جهات أخرى ، وصارت المعرفة الدينية شائعة عبر وسائط التواصل المختلفة بالرغم من الملاحظات التي يمكن الإدلاء بها في المحتويات والكيفيات ، فحياتنا المعاصرة أضحت تطلب وتبحث عن نوع ما من التنسيق بين المعرفة الدينية وبقية المعارف الرائجة في وقتنا ، والمسلمون لا يعيشون وحدهم بل يتجاورون مع بقية الأمم الأخرى ، ولذلك فهم مطالبون بالشرح والتوضيح المتلازمين بصفة الدوام لأنفسهم أولا ، وللآخرين ثانيا لإزالة كل لبس وجيه أو مفتعل عن تلك المعارف الدينية ، وعلى رأسها السيرة النبوية ، وهذا الدور الجديد المنوط بنا يحتم علينا الإحاطة بحياة رسولنا المصطفى عليه السلام ، وربطها بمختلف حلقات التاريخ الإسلامي ، والاستفادة منها في وقتنا ، والاعتماد عليها في بناء منهج مُحكَم للدعوة إلى الله تعالى ، وبيان دينه ، والعمل على تحقيق أهدافه .
سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام تبقى سيرة حية ومعطاءة ما دام الدين موجودا ، والنفوس تتوق إلى النهل من معينه الصافي ، والاستزادات المطلوبة منا لبلورة تجليات الحضور القوي الدائم لمعنى السيرة كتاريخ وأحداث وقيم ، ولنحيي وننهض بالنموذج الإسلامي كما جسدته لنا السيرة النبوية العطرة .
الآن وعلى صعيد تتبع الدراسات السيرية التي أنجزت ، وكان لها صدى طيب يمكن أن نميز بين أربعة أوجه متكاملة من ناحية الزمان ، ومن ناحية الوظائف الفكرية الموكولة لكل وجه :
الوجه الأول يمثله الجيل الأول من كُتَّاب السيرة كابن إسحاق وابن هشام والواقدي وغيرهم ، وكتبهم تتسق مع النمط المعرفي المنتشر في تلك العصور ، ومع ما تقتضيه مراحل التأسيس لنهج جديد في المعرفة الإسلامية عموما ، ولهذا كثرت الأخبار والمرويات المحشوة فيما بينها بلا عزل ولا تنقيح يميز بين أنواعها كما يشاع اليوم بيننا ، وشكلت الكتب المذكورة ومثيلاتها دعامة الفكر المعتمد لدى كل أطياف المثقفين من العرب ، وبقية الأمم على مر العصور .
الوجه الثاني سيتخصص حديثه ، وينحصر في مجهود كتاب السيرة من العرب المحدثين ، وهم جيل متنور نهض بأعباء الكتابة انطلاقا من الواجب الديني ، وانسجاما مع معارفهم الذاتية ، واجتهاداتهم الناتجة عن قراءاتهم لكتب السيرة القديمة بمناهج العصر المنتشرة ، وكانت أهدافهم تتجلى في الأبعاد المعرفية التالية :
– تنقيح كتب السيرة القديمة ، وتخليصها من آفة تطويل الحشو ، وتكرار الأخبار ، ومما ثبت خطؤه منها بالدليل العلمي .
– ربط درس السيرة بالعصر الحديث من ناحية الفهم والتصور والمواكبة الضرورية لإنجاز الأهداف المسطرة .
– التركيز على فقه السيرة ، أي ما يجب أن يستنتج من دروس وعبر ، ويشار إليه على مستوى الأحداث المعاصرة كما نجد ذلك مجسدا في عنوان واحد لكتابين جميلين جدا هما كتاب : فقه السيرة لكل من محمد سعيد رمضان البوطي ولمحمد الغزالي رحمهما الله .
– بيان دور دروس السيرة المحوري في عملية الإحياء والتربية النافعة والمستدامة للأجيال الإسلامية المتعاقبة .
– الرد على الشبهات ، وقد برع فيها المحدثون كثيرا ، وأجادوا عرضها وتحليل أسسها المعرفية ، ولعل مجهود الأستاذ البوطي في كتابه المذكور يمثل النموذج المرجو على صعيد الوفرة في الأخبار ، ودقة السرد ، والهدوء في الشرح والتحليل ، وأصالة الفهم ، والبراعة في تفنيد كل الادعاءات ، والبيان المنهجي المعتمد في نجاعة الخلاصات العلمية النهائية .
الوجه الثالث هو المتعلق بجهد كتاب السيرة المسلمين من غير العرب ، ومعهم قفزت دراسة السيرة النبوية إلى مجالات التفكير الجديدة ، فاللحمة القوية الرابطة بين الأطراف كانت هي الفكر بمختلف اتجاهاته ، فلم تعد السيرة عندهم عبارة عن أخبار وأحداث وفقه ، وإنما أضحت تقدم على شكل مفاهيم وتأملات راصدة لكل شيء مميز ، ومُسفِرَة عن أسباب نجاح الدعوة الإسلامية ، وداعية لتحقيق النموذج النبوي في الهدي والإيمان والعيش وتدبير شؤون الشعوب والأمم ، وازدهار المجتمعات الإنسانية .
اختارت تلك الدراسات والمعالجات مفاهيم ومصطلحات ، ومن أهمها تداولا بيننا اليوم مفهوم ( الكمال المحمدي ) كما جاء في كتاب : ( الرحيق المختوم ) للشيخ صفي الرحمان المباركفوري ، والكمال المحمدي عنده يعني كمال النفس واستواءها ذاتيا وأخلاقيا وعقليا واجتماعيا ووصفا وعدلا ولغة ومعاملة ، وتوج تصاعد بناء الذات المحمدية بتجسيد معنى الكمال بين الإنسان وربه وخالقه.
وأظن أن النفَس الجديد لهؤلاء الباحثين قد ساهم في إضافات منهجية وتركيبية ، تتبعت لنا حياة نبينا عليه الصلاة والسلام بتفصيل وتركيز ، ولخصت لنا مسيرة أفعاله المحمودة وإن تعددت مواقف الحياة وتنوعت ، وأدت في النهاية إلى تكوين الأمة المحمدية بالمفهوم القرآني ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ – سورة آل عمران : 110) وبالمقهوم الإنساني المراد والمشتنتج من قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ – سورة الحجرات : 13 ) .
إن دراسة السيرة النبوية على ضوء المفاهيم الصحيحة الذي وضعها المسلمون من غير العرب فيها تكامل ، وفيها انفتاح على استعمالات علمية مستحدثة ومغايرة لما سبق إنجازه ، وخالية من تأثير عواطف الحب والكره ، وبواسطتها تحققت عالمية الرسالة المحمدية وما تضمنته من رحمات لصالح البشر ، مصداقا لقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ – سورة الأنبياء : 107) .
الوجه الرابع ينفرد بدراسة السيرة النبوية كما تناولها مفكرون غربيون منصفون .
السمة الأساسية هنا أن تلك الأبحاث انطلقت من المنجزات الميدانية التي حققها نبينا محمد عليه افضل الصلاة والسلام ، وما واكبها من تغييرات صريحة وضخمة على مستوى الحدث الإنساني العام سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفي ظرف زمني وجيز جدا ، وخلصت إلى نتائج واقعية وملموسة ، سَمَت فيها مفاهيم مثل العظمة والقيادة والزعامة والعبقرية والبطولة وغيرها إلى الأسمى ، وعُدَّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الأفضل والأنجح والأنجع بحسب معاييرها المستخدمة ، ومن الأمثلة البارزة على هذا الوجه كتاب : ( الأبطال ) لتوماس كارليل ، وكتاب : ( حياة محمد ) للشاعر الفرنسي الكبير الفونس دولامارتين وكتاب : ( الخالدون المائة ) لمايكل هارت .
الخطأ الوحيد الذي وقعت فيه مثل هذه الدراسات هو أنها بقيت أسيرة للوقائع ، ولم تستطع أن تنظر إلى ما وراء العقل ، واعتبرت المنجزات العظمى صناعة بشرية محضة ، ومن نتائج الحنكة والتجربة والريادة المتفردة في كل شيء ، ولم تحاول أن تربط ما بين الفعل المنجز وظاهرة الوحي كما نفهمها نحن المسلمون بالرغم من أنها لم تُنهِ النقاش العلمي المفتوح بذكر ما استخلصته من قواعد محددة بتعيين لفظي وإجرائي حتى تكون نبراسا يحتذى لتحقيق مفاهيم العظمة والزعامة والعبقرية والبطولة….لكل طالب لها من الأشخاص الآخرين كما تزعم تحققه في سيرة نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ما دام أن الفعل هو فعل إنساني محض ومجرد من كل لمسات السماء .
لنرجع إلى ما كتبه العرب في مختلف الأعصر ، ونشير إلى نوع جديد في التأليف السيري ، ويتمثل في المنزع الذاتي المتعلق بالحب والتعظيم والشمائل المميزة والمتميزة في حياة رسولنا المصطفى عليه السلام ، وأستطيع أن أشير إلى ثلاث مؤلفات أساسية هي كتاب ( الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية ) للإمام الترميذي ، وكتاب ( الشفا بتعريف حقوق المصطفى ) للقاضي عياض ، وكتاب ( دلائل الخيرات ) لابن سليمان الجزولي رحم الله الجميع .
أقصد بالوازع الذاتي تلك الرؤية الخاصة التي ينطلق منها كُتاب هذا النوع من السيرة النبوية ، فالمحك الذاتي أساسي سواء كان تعلقا أو حرمانا أو تمنيا ورجاء حسب أحوال النفس ، وهذا النوع لا يمكن أن ينتشر على صعيد التأليف ، وعلى صعيد التلقي بسبب ذلك البعد الذاتي الغائر في بعض النفوس المترنحة بحب نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام حبا خاصا وضيقا ، لا يقف على جدواه وأعماقه إلا من أمده الله بنفحة منه ، فهو قليل في كل شيء : قليل في عدد التصنيفات ، وقليل في الرواج والاعتماد ، وقليل في التتبع والقراءة والتحليل.
وأرى لزاما علي قبل الختم أن أذكر بمجهودات المغاربة في التأليف السيري ، فقد كان لهم باع طويل في الحب والتعلق والمدارسة والتأليف ، وسبق ذكر كتابين عظيمين ورائدين في المجال المذكور ، وأقصد كناب : ( الشفا بتعريف حقوق المصطفى ) للقاضي عياض ، وكتاب : ( دلائل الخيرات ) لابن سليمان الجزولي رحمهما الله ، وسأضيف هنا كتابين جديدين ، أعجبت بهما كثيرا ، وأريد أن أنبه القراء إليهما ، وأنقل إليهم ذلك الإعجاب بالسند العلمي المتبع ، الكتاب الأول هو : ( نًفائِسُ الدُّرَر من أخبار سيدي البشر ) لأبي سرحان مسعود بن محمد بن علي جَمُّوع السجلماسي ، توفي سنة 1119 هجرية ، وقد طبعته الرابطة المحمدية للعلماء في ستة أجزاء كبيرة ، والكتاب الثاني هو : ( شفاء الغرام بزيارة خير الأنام عليه أفضل الصلاة وازكى السلام ) للعلامة محمد بن محمد بن المهدي الحجوجي الحسني المتوفى سنة 1370هجرية .
الكتابان معا يختصران التأليف السيري المغربي ويذكران بمعاني تعلق المغاربة بالرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وهو تعلق جمع بين الأحداث المختلفة للسيرة النبوية ، وتطرق إليها بقواعد العلم المعروفة ، ولم يغفل عن الميزة الأساسية لدى المغاربة ، ألا وهي إظهار الأبعاد الذاتية الدفينة في النفوس ، الدالة على مكمن التعلق والعشق ، فعلى سبيل المثال نجد في كتاب جَمُّوع عناوين عامة من قبيل المعرفة العقلية المستقصية للوقائع كحديثه عن أخبار ولادة المصطفى ونسبه والأحداث الواقعة في مكة ، وبجانبها المعرفة الذاتية النفسية ، الكاشفة عن الدواخل كوقوفه متأملا فضائل التسمية باسم محمد وأحمد ، والإشارة إلى مجموعة من العجائب التي وقعت يوم ولادته عليه الصلاة والسلام .
أما كتاب الحسني فقد أرخ لرحلة زيارة المدينة وقبر المصطفى عليه الصلاة والسلام في غير رحلة حج ، ولم يسمها رحلة ، وإنما أضفى عليها عنوانا ذا بعد ذاتي ونفسي يجمع ما بين الغرام والشفاء ، وضمنه كثيرا من الأشعار والتأملات التي استقاها من وحي الزمان والمكان .