المعلم سعيد / قصة قصيرة
محمد نشوان / مكتب مراكش
المعلم سعيد
أجنحة المساء الحريرية تنشر خيوطها فوق سهول العقبة العالية الهادئة ، بينما تودع الطيور الطبيعة الرقيقة بأناشيدها العذبة الحالمة ، في وقت يلقي فيه أطفال الدوار آخر نظراتهم على الأكواخ الريفية المتواضعة . وتتصاعد من اعماق الأفق البعيد أصوات الفلاحين العائدين إلى بيوتهم يحلمون بالسنابل الشقراء والسنة الخصبة. والمعلم سعيد يرقب حركة الدوار ، ويتأمل عبر نافذة الفصل انتحار الشمس البطيء وانهزامها اليومي.
وفي كل صباح تبعث الشمس من جديد ، ويبدأ الدوار في ممارسة واجباته اليومية الروتينية . تفرض الشمس نفسها وبإلحاح، ساطعة وقوية إلى حد ما …
يتكرر نفس المشهد كل يوم.
يتجه المعلم سعيد نحو المدرسة ، والتي تشبه عروسا ليلة زفافها ، يرافقه ـ في طريقه ـ أطفال دفعهم حب التعلم والقراءة لقطع مسافات طويلة ، منهم من يحمل خبزا أبيضا، ومنهم من يحمل خبزا أسودا، وآخرون يحملون حلما أخضرا …
يقطعون الجبال والوديان ، الشمس لا تخيفهم ، المطر لا يرهبهم ، إنهم أبناء زمن القوة ، حباهم الله بمعلم نشيط ، يحبهم ، يعتبرهم أبناءه ، يمثل الجنس الإنساني بكل ما فيه من إنسانية ، البسمة لم تكن تفارق محياه ، ومع ذلك فقد كان يخفي أشياء كثيرة .
سعيد الإنسان ، سعيد اللغز ! ليس هنالك ثمة إنسان واضح و مفهوم ، كل واحد يمثل عالما غامضا من الصعب استكشاف خفاياه …
تتزاحم المواقف ، تتسابق الأحداث ، تموت الأيام ، وعمر الإنسان يقترب شيئا فشيئا من النهاية ، يواصل التاريخ مسيرته دون توقف …
يوم الخميس والمعلم سعيد يشرح – كعادته – درسا لغويا ، بين علاقة الفاعل والمفعول ، الأطفال ينصتون ، يحاولون فهم أشياء أكبر من فهمهم ، يبحثون عن الفعل حتى تكون العلاقة صحيحة …
جاء طفل يجري ، دخل المدرسة بقدميه الحافيتين ، شيء ما يحدث في الدوار يفوق تخيلات الصغار الذين لازالوا في بحث مستمر ، كمن يريد حل مسألة رياضية معقدة ، تكلم ذو القدمين الحافيتين مع المعلم سعيد خفية حتى لا يسرق الأطفال الخبر ، عيونهم تنظر وبفضول متزايد لعلها تكشف سر هذه الزيارة المفاجئة ، بكى سعيد وانصرف التلاميذ …
كان الخبر وفاة أحد تلامذته ، بكى من جديد ، كان في الأمر سرا ، وصل بيت أسرة الفقيد الصغير ، ازداد بكاؤه أكثر فأكثر و لجلالة الموقف لم يستطع أحد من الحاضرين أن يسأل عن سر هذا البكاء ، الكل كان واقفا في حالة خشوع ، الناس انتبهوا لسعيد أكثر من انتباههم إلى أسرة المرحوم …
صباح الجمعة، كان الخبر مفجعا، تناقلته أعين الصغار الدامعة وألسنة سكان العقبة ، لقد فكر العصفور ألا يغني ، فوضع حدا لحياته ، خنق نفسه داخل قفصه الحديدي …
وفي المدرسة التي تطل على الأكواخ الريفية المتواضعة ، فكر المعلم ألا يشرح علاقة الفاعل بالمفعول به وألا يشغل صغاره بالبحث عن الفعل وعن صاحبه ، فشنق نفسه ، تماما كما فعل العصفور المسكين …
انتهى سعيد ـ ومن غريب الصدف أن يكون هكذا اسمه ـ نهاية مأساوية . انتهى جسدا لكن روحه لا زالت تسبح في فضاء المجموعة ، وبسمته التي لا تفارق محياه لا زال عطرها في كل بيت . انتهى سعيد بشكل لم يتوقعه أي إنسان تاركا خلفه مئــات الأسئلة المعلقة وتاركا كلمته التي طالما رددها :
ـ عندما ترى نفسك تسبح في بحر من المشاكل ، فجرب أن تداعب الموت !
محمد نشوان
المعلم سعيد : شخصية واقعية .
العقبة : قرية موجودة بصخور الرحامنة.