أخبارتعليم وتربية

تأملات مستفادة من فاجعة الزلزال : تَعَلُّمُ الإنسان للتفكير الإيجابي في وقت الأزمات : الطرق والكيفيات

د . مولاي علي الخاميري / أستاذ جامعي / مكتب مراكش

الأزمات بمعاني الابتلاء تستند في وجودها على مجموعة من العوامل ، فهي لا تحط من قيمة الإنسان الوجودية ، وإنما تتوخى التنبيه ، والإصلاح ، وإرشاد الناس إلى ما سيفيدهم في الدنيا والآخرة ، وقد أحصى عدد من العلماء مغازي الابتلاء ، وسنختصرها ونحددها في معاني وعناوين على الشكل التالي :

1 – الابتلاء محطة تمحيص وتكفير .
2 – الابتلاء رفعة للدرجات وسبيل للارتقاء إلى درجات من الفوز لا تُنال إلا بعد الامتحان .
3 – الابتلاء درس من دروس تأكيد التوحيد بالصبر والشكر والإيمان والتوكل والرضى……
4 – الابتلاء توازن وكشف لحقيقة الدنيا وزيفها ، وأنها متاع الغرور ليس بمعنى الرفض والانزواء ولكن بمعنى رسم الحدود الواجبة في كيفية التعامل حال الإقبال والفرح ، أو الإدبار والحزن .
5 – الابتلاء يذكرنا بنعم الله الدائمة وبقدرته المطلقة ، وبلطفه المصاحب لنا في جميع الحياة ، وهو يُعَد من أكبر الفضائل والنِّعم الضامنة لوجودنا ، واستمرار سلالتنا .
6 – الابتلاء نفحة تربوية وتعليمية مهداة من رب غفور رحيم إلى جميع العباد ، تتأسس على مبدأ التوازن النفسي والفكري الضروري في الحياة لكي نتنفس نسمتها الإيجابية برغم تقلباتها السلبية ، وما أكثرها ، فلا نفرح فرحا يقودنا إلى الطغيان ، ولا نأسى أسى يفنينا ، قال تعالى : ( لِكَيلا تَاسَوا على ما فاتَكم ولا تفرحُوا بما آتاكم والله لا يحب كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور ) .
7 – الابتلاء فيه دلالة وتذكير بعيوب النفس التي تدخل في ماهيتها البشرية قصد الانتباه إليها وإصلاحها ، والوصول بها إلى معرفة ما ينبغي عليها من عمل ومواقف في كل حياتها .
8 – للابتلاء دور كبير في إحياء قيم التضامن والإحساس بالآخر المُتعَب ، وتتحول معه الجماعة وكأنها فرد واحد ، وتُنسَى بسببه كل المشاكل والحزازات السيئة المُكتَسبة من جريان الحياة العادية .

إن أكبر فائدة يقف عليها الإنسان في أوقات الابتلاء تتجلى في مواجهته لنفسه ولواقعه من جديد ، وتعطيه فرصة حقيقية للتأمل في مسار حياته ، والشعور بالنتيجة الصحيحة سواء كانت سلبية أم إيجابية ، ما دامت المحاسبة تشعره بالتقصير دائما .

وجهةُ نظر الدين الإسلامي بُنِيت على أن تجعل الإنسان قريبا من ربه في جميع الأحوال ، ولاسيما في أوقات الشدة والابتلاء ، ولهذا كان الأنبياء والرسل عليهم السلام أشد الناس ابتلاء لئلا يفتتن المبتلون من الناس البسطاء ، ويتوهمون انهم منبوذون ومحتقرون ومن درجة ثانية ، أو دونية في السلم الإنساني العام.

والعلماء حصروا الكلام إبان زمن الابتلاء في خصلتين كبيرتين هما : الصبر بمفهومه الكبير ، وكذلك الشكر بجميع تجلياته .

فعلاقة الخصلتين المذكورتين بالابتلاء لا يمكن حصرها في حدود التعريف اللغوي والمصطلحي لأنه يبقى تعريفا يُقَرِّب المعنى الذهني للإنسان ما دام أنه يُدرَك بالعقل أولا ، ثم ببقية الحواس ثانيا ، فإذا رجعنا إلى آيات الصبر كما وردت في القرآن الكريم سنجد أنها تقترن دائما بالفعل سواء كان معروفا أو مجهولا ومستورا ، وعليه تُبنى المعاني الفعلية الأصيلة لكي يتحقق في النهاية المقصود المراد بلفظ الصبر ، قال تعالى عن الصبر في الآية : 135 من سورة البقرة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وقال في السورة ذاتها ابتداء من الآية : 155 : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) وقال في الآية : 90 من سورة يوسف : ( إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّـهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ) وقال على لسان لقمان وهو يخاطب ابنه مُعلما ومُوصيا : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) .

أكتفي بهذه النماذج من الآيات الكثيرة التي تضمنت معنى من معاني الصبر المقرون بالعمل دائما ، وسأنتقل بالقارئ إلى بعض مفاهيم الصبر المناسبة للمآل والحال وسأقتصر منها على ثلاثة فقط ، قال الجنيد رحمه الله : الصبر هو ( تَجَرُّعُ المرارة من غير تَعبِيس ) وقال غيره هو : ( الوقوف مع البلاء بِحُسن الأدب ) وقيل ( الصبر شجاعة ساعة ) .

التعريفات الثلاث متقاربة في المعنى والأساليب المستعملة ، وهناك تعريفات أخرى تنظر إلى الصبر من جهات متعددة مسايرة لكل مخازي الحياة وقساوتها ، وقد اخترت وركزت على ما يتميز بالعمومية والإطلاق ، وما له ارتباط قوي بنوع الحياة السائد في زمننا ، وكذلك ما يتلاءم مع دهشة الزلزال الذي أصابنا .

مَن ينظر إلى الحياة بفهم وتجربة فاحصة سيلاحظ أنها لم تستقم ولن تستقيم بأمر واحد معين ومعروف كالأمور المادية المعتبرة عند كل الناس على سبيل المثال ، وأن التقلب المستمر هو من بين أبرز صفاتها الملاحظة بتأكيد واستمرارية ، ولا يوجد إنسان يشعر بالراحة المنشودة اتجاهها ، ولهذا ينبغي لكل إنسان أن يتسلح بما يجعله صماما لجميع التأثيرات الممكنة من ممارسة الحياة بصفة فردية ، أو بصفة جماعية ، وإلا سيشتعل ويُدَمَّر ويُحبَط ، فليست هناك قاعدة ناجعة تجعل الكائن الآدمي يحصل على السعادة المرجوة كما يشتهي ويتمنى ، فمع العيش وتقدم سنوات العمر تظهر آفات في الطريق ، وانعراجات قلقة ، وتوقفات مفروضة ، ودائما أشبه الحياة بالطريق بالنسبة للسائق ، فهو يتعامل معها بالانتباه الواجب ، وبالزيادة أو النقص من السرعة ، وباحترام القواعد المنظمة للسير ، وبمراعاة أشكال المراقبة الممكنة ، وباحترام حقوق وواجبات المشتركين في الطريق ، وعندما تزدحم في أوقات الذروة عليه أن يهدأ ويتوقف ، ويسير بمهل ، ويتبع دوره في الطابور الطويل حتى يمر بسلام……كذلك الحياة ، بل الحياة أشد وأكبر وإن كنا نتغافل عن حقائقها بسبب الألفة والعادة والنسيان والتجاوز .

كل مَن يتوهم أنه سيعيش حياته على وتيرة تُبقيها جميلة وبشوشة وسعيدة فهو واهم وأحمق ، وأكيد سيصطدم بخبثها وتقلباتها المضرة ، ومَن يريد أن يقطع مرحلة الحياة متكئا أو مُعَوِّلا على وسيلة ، أو وسائل مملوكة له ستنجيه من المخالب المرفوعة أمامه سيُصاب بكل أنواع التذمر والتأفف ، وربما سيغدو من أكبر المتشائمين والمنسحبين من الحياة .

حياتنا المعاصرة إنما قد غَصَّت بالمرضى والمهووسين والمكتئبين ، وكثر فيها الإقبال على الانتحار ، ومظاهر البؤس المترامية أمامنا لأن أهلها لم يستوعبوا منها إلا جانبا واحدا ، وظنوا أنه كل الحقيقة ، فلما انفلت ووَلَّى وغرُب عن حياتهم وجدوا أنفسهم أمام فراغ روحي وفكري قاتل ، واكتشفوا أن المعاناة ستصاحبهم ما بقوا أحياء ، وأن زمن التعلم وترويض النفس على جميع أوجه الحياة قد فات ، فالصبي والشاب الذي لم يتدرب على معايشة الصعوبات ، وكيفية التفكير الإيجابي في الملمات قبل وقوعها لن يكون من الناجحين إبان حدوثها .

تروج حِكم مأخوذة من الحياة ، ترشد الإنسان إلى بعض قواعد تعليم النشء لكيفية الصبر من خلال بعض العمليات الحياتية البسيطة ، فالدفع بالأولاد إلى أكل الحوت الذي يحتاج إلى انتباه وتأن لكثرة شوكه فيه نفع على درب الصبر ، والإشارة عليهم بالقيام بفك المُخَبَّلِ والمتداخل من الأشياء المبعثرة يضمن شيئا من مزاولة الهدوء وتتبع المشاكل لحين حلها والقضاء عليها ، ومع توالي الأيام يمكن جبر النشء على ممارسة الرياضات الشاقة للحصول على قوة بنية الجسد ، ولإرشادهم إلى معاني الحياة التي سيعيشونها مستقبلا .

ونحن المسلمين كان ينبغي أن نكون سَبَّاقين لكل ذلك وسواه لأن ديننا يحثنا على الصبر في المَنشَط والمَكره كما يقول الفقهاء ، ويعدنا بالجزاء الحسن الطيب ، وبأن نحيا حياة متزنة وهادئة تماشيا مع قوله تعالى : ( إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ) وأصاب اللغويون حين استنتجوا قاعدة جميلة للناحية النفسية ، وقالوا عبارتهم المشهورة : ( لن يَغلِبَ عُسر يُسرَيْن ) على أساس أن تكرار المعرفة ( العسر ) لا يفيد لغويا وواقعيا على خلاف تكرار النكرة ( يسر ) فكأن في الآية المتقدمة لم يرد إلا عسر واحد وإن تكرر لفظه فمعناه واحد ، أما ال ( يسر ) فهو مكرر ومضاعف بعدد وروده لأن صيغته نكرة كما قلت .

مراكش في : 21 شتنبر 2023 .

( يتبع )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock