قراءة في مشروع القانون 23-10 على ضوء قواعد مانديلا مساهمة في إصلاح السجون بالمغرب (11)
عبدالحق الدوق*
2.7.2. سرية المعلومات الطبية:
إن ممارسة الطب، داخل المؤسسات السجنية، مع الالتزام الصارم بقواعده الأخلاقية هي ممارسة صعبة، إن لم تكن مستحيلة، مع المريض المعتقل. فهو يمثل خصوصية مرتبطة، من ناحية، بخصائص الساكنة السجنية، ومن ناحية أخرى، بالبيئة الخاصة التي يمثلها السجن، وهو مؤسسة أمنية تجمع الأفراد المعاقبين بالحرمان من الحرية من قبل المحاكم.
ومع ذلك، يجب تطبيق المبادئ الأخلاقية العامة لمهنة الطب، وتكون بمثابة دليل لضمان أفضل رعاية للمرضى. فرغم القوانين الداعمة للسرية الطبية في السجون، فإن احترامها لا يتم بالشكل المطلوب، خصوصا لما تكون المصالح الطبية لا تكون تابعة مباشرة إلى القطاع الوصي.
سوف نذكر المواد المعنية بهذا الموضوع في مشروع قانون 23-10، مع تقديم تحليل موضوعي، مع وعينا بأنه يحتاج إلى تعميق النقاش فيه من طرف بعض أهل الاختصاص في مجالي القانون والطب، مذكرين أن طرحنا هو محاولة لتحليل إشكالية احترام السر المهني في المجال الطبي من وجهة نظر حقوقية، من حيث:
توثيق المعطيات الطبية والحفاظ سريتها داخل المؤسسات السجنية؛
التعامل مع هذه المعطيات عندما يتعلق الأمر بانتهاك حق المعتقل في التطبيب أو عندما يكون هناك ادعاء بالتعذيب؛
إشكالية موافقة المعتقل على الاطلاع على ملفه الطبي أو عدم موافقته عندما يتعلق الأمر بالانتهاكين المشار اليهما أعلاه؛
وذلك من خلال 3 نقاط:
مبدأ سرية المعطيات الطبية
السر المهني وتسليم الوثائق الطبية للمعتقل أو أسرته أو محاميه
السر المهني والاطلاع على الملف الطبي من طرف السلطات والهيئات المؤهلة قانونا
1.2.7.2. مبدأ سرية المعطيات الطبية:
لقد صرح المشروع بوضوح على مبدأ سرية المعطيات الطبية، وذلك من خلال المادة 111 التي جاء فيها: ” يجب احترام سرية المعلومات الطبية.”
فاحترام السرية الطبية واجب على الطبيب وليس حق. إن تجاهل هذا السلوك القديم للأطباء سيكون بمثابة تجاهل لأحد حقوق الإنسان الأساسية. كما يجب أن يتأكد جميع المرضى من أن ثقتهم لن تتعرض للخيانة عندما يزودون طبيبهم بمعلومات تتعلق بهم أو تتعلق بأطراف ثالثة.
حوالي عام 500 قبل الميلاد، أسس أبقراط الملاحظة الطبية، وأسس الطب على استجواب المريض وفحصه، وكذلك دراسة بيئته. وهذا يعني أن الطبيب يتدخل في خصوصية المرضى، ويخلق علاقة لا مثيل لها في أي موقف آخر. إن معرفة هذه العلاقة الوطيدة تفترض وضعٍ له بالمقابل ممنوعات تفرض على الطبيب، كمنع العلاقات الحميمية أو حفاظه على سرية ما شاهده وسمعه وفهمه أثناء ممارسة مهنته، كما أشارت إليه المادة 11 من مدونة اخلاقيات مهنة الطب .
إذا كان من المعترف به قانونًا أن السرية مطلقة، إلا أنها قد تعرف بعض الاستثناءات. ففي فرنسا، مثلا، يتم الاعتراف بالتزام السرية الطبية باعتباره عامًا ومطلقًا، لكن القانون، عند تقييم المصلحة الاجتماعية، يمكن أن يقول إن المصلحة العليا تتطلب الكشف عن بعض النتائج الطبية، حيث جاء في المادة 14-226 من القانون الجنائي الفرنسي الاستثناءات التالية:
” 1. لكل من أبلغ السلطات القضائية أو الطبية أو الإدارية عن إساءة أو حرمان وقع على قاصر لم يتم الخامسة عشرة من عمره أو على شخص غير قادر على حماية نفسه بسبب سنه. أو حالته الجسدية أو النفسية؛
2. للطبيب الذي، بموافقة الضحية، يلفت انتباه المدعي العام إلى الاعتداء الذي لاحظه أثناء ممارسة مهنته والذي يسمح له بافتراض ارتكاب أي نوع من العنف الجنسي.
3. للعاملين في مجال الصحة أو العمل الاجتماعي الذين يقومون بإبلاغ المحافظ، وفي باريس، والي الأمن، بالطبيعة الخطرة على أنفسهم أو على الآخرين، من طرف الأشخاص الذين يستشيرونهم والذين يعرفون أن لديهم سلاحًا أو أعربوا عن نيتهم في الحصول عليه .”
فإذا كان مبدأ سرية المعطيات الطبية مُسَلَّم به منذ قرون فقد وجب:
من جهة، التفصيل فيه باعتباره كان يعرف غيابا في قانون 98-23 المتعلق بإدارة المؤسسات السجنية والمعمول به حاليا، وبالتالي ننوه بمشروع قانون 23-10 لَمّا صرح به على شكل مبدأ أساسي.
ومن جهة أخرى، كان من الضروري التذكير بان هذا المبدأ له استثناءات، قلما يشار إليها في النقاش العمومي، ستفيد ما سنشير إليه لاحقا.
إلا أننا نسجل أن المشروع لم يصرح في أية مادة من مواده المتعلقة بالحق في الصحة إلى سرية الفحوصات الطبية، كما أشارت إلى ذلك القاعدة 31 من قواعد مانديلا التي أفادت أنه: ” تُتــاح للطبيــب، وعنــد الاقتــضاء، لغــيره مــن اختصاصيي الرعايــة الــصحية المــؤهَّلين إمكانيــة الوصول يوميا إلى جميع السجناء المرضى، وجميع السجناء الـذين يـشكون مـن مـشاكل متعلقـة بالـصحة البدنيـة أو العقليـة أو الإصـابة بـأذى، وأيِّ سـجين يُـسترعى انتبـاههم إليـه علـى وجـه خاص. وتُجرى جميع الفحوص الطبِّية في سرِّية تامة.”
لهذا نقترح أن يضاف “وتُجرى جميع الفحوص الطبِّية في سرِّية تامة” الى إحدى المواد بالفرع الثالث المتعلق بالرعاية الصحية، وخصوصا إلى أحد المادتين التاليتين:
• المادة 96: “الحق في الرعاية الصحية والعلاج مضمون لجميع المعتقلين دون تمييز.
يستفيد المعتقلون المرضى من الخدمات الصحية مجانا داخل المؤسسات السجنية أو المؤسسات الاستشفائية العمومية.”
• المادة 97: “تقدم الخدمات الصحية بالمؤسسة السجنية طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل.”
2.2.7.2. السر المهني وتسليم الوثائق الطبية للمعتقل أو أسرته أو محاميه:
لقد ارتبط ذكر السر المهني بتسليم الوثائق الطبية في المادتين 36 و37 من المشروع موضوع هذا البحث. ورغم أن ذكر السر المهني في هاتين المادتين إلا في آخر فقرة منهما، إلا أننا سنذكرها بالكامل حتى يتسنى فهم إطار الملاحظات التي سنثيرها بخصوصهما.
جاء في المادة 36: ” تسلم بطاقة الإفراج للمعتقل عند الإفراج عنه، وتثبت فيها مدة الاعتقال دون الإشارة إلى سببه.
يسلم للمعتقل، بناء على طلبه، سواء أثناء اعتقاله أو بعد الإفراج عنه، موجز من سجل الاعتقال دون الإشارة إلى سببه.
يتوقف تسليم موجز من سجل الاعتقال لعائلة المعتقل أو للمحامي أو للشخص الذي أدلى المعتقل ببياناته عند إيداعه بالسجن، على الموافقة المسبقة للمعتقل.
ينجز مدير المؤسسة السجنية موجزا من سجل الاعتقال ويشهد بصحته ويحرص على تسليمه للشخص الذي تقدم بالطلب بعد التأكد من هويته، وإذا غاب مدير المؤسسة أو عاقه عائق، ناب عنه، حسب الترتيب، المسؤول الإداري المساعد أو الموظف المسؤول عن الضبط القضائي.
غير أنه في حالة وفاة المعتقل لا يجوز تسليم هذا الموجز إلا من قبل الإدارة المكلفة بالسجون، وفق كيفيات تحدد بنص تنظيمي.
يُسلم وفق الشروط والإجراءات المشار إليها في هذه المادة تقرير مستخرج من الملف الطبي للمعتقل، ما لم يقتض السر المهني خلاف ذلك، وفي هذه الحالة يسلم لطبيبه الخاص. ”
نسجل هنا بعض الملاحظات تتعلق بشروط تسليم التقرير الطبي:
فالفقرة الأخيرة تفيد أن شروط هذا التسليم يقاس على تسليم الموجز من سجل الاعتقال. وسنركز هنا فيما يتعلق بتسليم هذا التقرير إلى المعتقل، ونطرح السؤال التالي: كيف يعقل وضع هذا الشرط لما يكون المعتقل هو من طلب وسيستلم تقريره الطبي؟ ثم لماذا إضافة “يسلم إلى طبيبه الخاص”؟ فالمعتقل بعد إطلاق سراحه يبقى حر في اختيار الطبيب لمتابعة علاجه. اما إذا توفى وطالبت اسرته بالاطلاع على ملفه أو الحصول على نسخة منه فتبقى لها الحرية في اختيار من تستشيره.
جاء في نفس الفقرة أنه لا يسلم للمعتقل إلا تقريرا موجزا من الملف الطبي، ونحن نعلم أن المعتقل من اجل متابعة وضعه الصحي يحتاج إلى ملفه الطبي كاملا وليس فقط لتقرير موجز من ملفه.
وهذا ما جاءت به مدونة أخلاقيات مهنة الطب وخصوصا ما جاء في الفقرة الأولى من المادة 49: ” يحق للمريض أو ممثله القانوني أو نائبه الشرعي أن يطلع، شخصيا أو من خلال طبيب، على العناصر الموضوعية في الملف الطبي. ويحق له الحصول، على نفقته، على نسخة من الملف أو جزء منه .” فهذه المادة من المدونة لم تتكلم عن تسليم تقرير موجز من الملف الطبي، بل عن الملف الطبي، كما أنها لم تشر باي شكل من الأشكال إلى السر المهني، لما يكون طلب الحصول على نسخة من الملف الطبي من طرف المريض. فالسر المهني، الذي يُفهَم من روح المادة 11 من مدونة أخلاقيات مهنة الطب التي ذكرناها أعلاه لا تَصْدُق عن المريض مادام الأمر يهمه، بل على أطراف خارجية.
لهذا نقترح إعادة صياغة الفقرة الأخيرة من المادة 36 من مشروع القانون 23-10 مع فصل طلب المعتقل عن طلب باقي الأطراف المذكورة في المادة 36 (الاسرة، المحامي، …)، كالتالي:
“يحق للمعتقل الاطلاع على ملفه الطبي والحصول، على نفقته، على نسخة منه أو جزء منه.
يُسلم وفق الشروط والإجراءات المشار إليها في هذه المادة تقرير مستخرج من الملف الطبي للمعتقل، ما لم يقتض السر المهني خلاف ذلك.”
وفي إطار دراستنا هاته نسجل ان المشروع لم يشر فيما يتعلق بسرية المعلومات الطبية إلى أهمية الحفاظ على سريتها اثناء معالجة الملفات أو في إطار الترحيلات، كما هو الشأن بخصوص باقي السجلات، كما أشرنا إلى ذلك في الحلقة الماضية، حيث ذكرنا ما جاء في المادة التي أكدت على تعرض كل موظف من أفشى سرية البيانات.
ولقد وجب لَفْت الانتباه إلى هذا الأمر، لأنه عموما ما يتم تداول معلومات طبية داخل المؤسسات السجنية بشكل لا يتناسب مع الحفاظ على سرية المعطيات الطبية. وبالتالي، فإن وجود موظفين أثناء العلاج أو الفحوصات، أو عند طلبات الحصول على معلومات عن الحالة الصحية من طرف الإدارة المركزية أو السلطات القضائية، قذ يتسبب بشكل غير مبرر إلى المعلومات الطبية من طرف أشخاص لا علاقة لهم بالمصالح الطبية. فليس لأن الأمن أولوية مشروعة للمؤسسات السجنية، يجب اعتبار كل الموظفين مسموح لهم بالاطلاع على المعطيات الطيبة للمعتقلين. فلا غرابة ان نجد في أغلب سجون العالم المصالح الطبية داخل المعاقل، وذلك من أجل الحد من تداول الملفات والوثائق الطبية.
فاحترام حقوق المعتقلين المرضى يتطلب الفصل الأخلاقي الواضح بين التدابير الصحية والتدابير السجنية. وبالتالي، فالأصل، مثلا، هو أن المعلومات التي يتم تسليمها من أجل تعديل ظروف اعتقال سجين، يجب ألا تتضمن تشخيصاً طبياً.
لهذا نقترح إضافة مادة تفيد منع تسريب كل المعطيات الطبية وتعريض المخالف الى العقوبات ذات الصلة، على غرار ما جاءت به الفقرة الأخيرة من المادة 18 التي ذكرناها أعلاه، كالتالي:
” دون الإخلال بالعقوبات الجنائية، يتعرض كل موظف أفشى سرية المعطيات الطبية للعقوبات التأديبية المنصوص عليها في النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل.”
ونظرا لأهمية تفصيل ما له علاقة بالسر المهني والاطلاع على الملف الطبي من طرف السلطات والهيئات المؤهلة قانونا، سنخصص حلقة الغد لهذا الموضوع.
* خبير في مجال حقوق الانسان في أماكن الحرمان من الحرية.
رئيس سابق لقسم حماية حقوق الانسان في أماكن الحرمان من الحرية بالمجلس الوطني لحقوق الانسان