ثقافة وفنمقالات واراء

بين الفصحى والدارجة : المقبول والمرفوض ( الحلقة الثانية )

الدكتور مولاي علي الخاميري
أستاذ جامعي /مكتب مراكش

الحلقة الثانية :

وسأبقى في هذا المقال منسجما مع موقفي الذي يقول بتكامل وتفاعل الفصحى مع الدارجة وعلى صُعُد متعددة ومتنوعة ولكن لن أتجاوز فيه حدودَ إبراز بعض سمات التداخل في العلاقات القائمة والممكنة بين المنحيين الفصيح والعامي للاعتبارات السابقة ، وبالضبط الجانب الدلالي الذي يبقى عنصرا مشتركا بنسب عالية جدا ، ونقطة التقاء متمددة ورحبة في جل روابط الفصحى بالدارجة ، ولهذا سأتوسع شيئا ما في الاستشهادات ، وسآخذ نصين متتالين من كل جزء من معجم محمد بوسلام على أمل أن تتاح لي في المستقبل بحول الله تعالى لحظات ولقاءات أخرى ، تخصص لتتبع كل نقط الاشتراك والاتفاق أوالاختلاف بين الفصحى والدارجة ، وما أكثر الصنف الأول منها في الكتاب المذكور حتى أتمكن من وضع ضوابط لغوية وفكرية إن على مستوى المعجم ، وكل ما يتعلق باللفظ والصيغ ، أو على مستوى الإبداع والتركيب ، وما يتطلب من تأويلات وتوجيهات الإفادة والإضافة للوصول إلى القول الفصل فيما بين الفصحى والدارجة من تلاقح وصلات وتواصل .

يقول محمد بوسلام في الجزء الأول من كتابه : ” معجم الدارجة المغربية : الجذور والاختلافات الجهوية ، الصفحتان : 187 \ 216 ” .
النص الأول يخص كلمة ” البايرة ” : ( البايرة جمع بايرات وهي الفتاة التي أصبحت عانسا ، ولم يطلب أحد يدها ، يقولون في الدارجة المغربية ‘ فاتها وقت الزواج ” وفي اللغة العربية بارت البضاعة تبور بورا وبوارا أي كَسَدت ولم تجد من يشتريها في السوق ، يقال ” فلان بارت عنده السلعة ” أي لم تُبع ، ولم تجد إقبالا ، يقول شيخ الملحون علي ولد الرزين في قصيدة السالف ” قصايد أهل الجهل يبقاوا في تحبيرة وشقاهم يبور ” والتحبيرة تعني الفساد والرشى ، ويبور يعاني من البوار والفساد ) .

النص الثاني يخص كلمة ” بَرَّى ” بتفخيم الراء وترقيقها : ( تعني في الدارجة المغربية ذهب يبحث عن الشيء ، يقولون في الدارجة ” تلف له ولده في السوق وشحال بَرَّى عليه………… ويقال ” فلان مشى يبري على رزقه ” وفي اللغة العربية بارى امرأته قصدها ليصالحها ، وبارى الرجل سابقه وعارضه ، وانبرى له اعترض ، وتباريا تسابقا ، ومنها التباري والمباراة جمع مباريات ، يقول الشاعر الزجال ، وشيخ الملحون التهامي المدغري ” زد لازمور اتقري فاتحة الكتاب وتبري على القلب الكاسر ” ) .

عندي ملاحظة على أمثلة لفظ ” بَرَّى ” كما رأيناها وهي تصلح للاستدلال على منحى ترقيق الراء في ألفاظ الدارجة المغربية بينما هناك أمثلة لحالة الراء المفخمة من مثل قولنا ” بَرَّى – بَرا ” بمعنى خارج البيت ، أو الفضاء الواسع كقولنا : ” اخرَج علي برَّى ” أو سافر إلى ” برا ” فالمعنى يتغير ليس بالاستعمال والسياق فقط ، وإنما بتفخيم الحرف وترقيقه كذلك ، وهذا مجال شاسع ، وحد متنوع لتحديد معاني الكلمات في دارجتنا .

ويقول في الصفحتين : 207 \ 209 من الجزء الثاني ، فالموضع الأول يخص كلمة ” زايان ” ويقول فيه : ( زايان في الأمازيغية جمع أزيي الذي قد يكون مشتقا من جذر ” إيزي ” وهو المرارة ، هذا الأصل الاشتقاقي يمكن أن يفسر باعتبار أن المرارة عند الأمازيغ رمز الشجاعة والإقدام حيث اشتهر الزيانيون بشدة البأس ، فهم محاربون مرموقون ، ويرجع laubgnac في مؤلفه حول زايان اشتقاق هذا الإسم من جذر ” إزاي ” الذي يعني الثقيل ، وفي اللغة العربية زوى يزوي زويا ، وَزَيَّا الشيءَ جمعه وقبضه ، وزوى المال وغيره حازه ، وانزوى القومُ بعضهم إلى بعض اجتمعوا وتضامنوا……..) .

أما الموضع الثاني فقد اهتم بكلمة ” زايغ ” ودورانها على معاني متداخلة فيما بين الفصحى والدارجة ، يقول : ( زايغ : زاغ الشيء أماله ، وأزاغ زوغا وزوغانا جار ، وزاغ البصر انحرف ، والزيغ هو الطيش ، زاغ خرج عن الطريق المستقيم ، أزاغه إزاغة جعله يزوغ ، يقولون في الدارجة المغربية ” فلان زايغ مع راسه ” أي متجاسر وفاجر ، وسلوكه خارج عن المألوف و ” مول المال زايغ بماله ” ) .

هذا هو الجانب الإيجابي المستمر والجامع ما بين الفصحى والدارجة عبر علاقة متقاربة ومتداخلة ومتداخلة وعلى جميع مستويات مفهوم اللغة ومتعلقاته ، ولكن هناك جانب سلبي ، يثير انتباهي ومخاوفي يوما بعد يوم ، ويشين لتلك العلاقة ، وقد توسع كثيرا في وقتنا الحالي ، وربما – لا قدر الله – ستكون لها آثار وخيمة على العلاقة المستمرة ما بين الفصحى والدارجة منذ القدم ، ويتمثل في عنصرين أساسيين هما :

العنصر الأول : إن كثيرا من رجال الثقافة والتعليم بمختلف أسلاكه فقدوا ناصية اللغة الفصحى ، وبدأنا نرى من يدرس باللغة الدارجة لضعفه وهشاشة مستواه اللغوي ، بل رأيت من يَدَّعِي التخصص في الجانب اللغوي وهو لا يستطيع أن يميز المبتدأ عن الخبر ، وليس له نَفَس للحديث بالفصحى حديثا سليما ومستقيما وجذابا ومؤثرا لبضع دقائق معدودات ، ومع ذلك يمارس في حقل الثقافة والتدريس ، بالإضافة إلى أن المضامين الرائجة اليوم يغلب عليها الضعف اللغوي كتابة وإلقاء ، وتطوقها ضوابط المنهج ، ويلفها الاستلاب ، ودخلت في نفق الفرضيات المظلم ، وقُزِّمَت حتى أصبحت عبارة عن لجاجات عقلية فارغة وجافة ، وأضحى مجال تمَلُّكِ حاسة البيان والجمال متقهقرا إلى الوراء .

العنصر الثاني هو ما يكتب وينشر الآن ، ففي أغلبه تصدق عليه المؤخذات السابقة من جفاف وركاكة ، وضيق بالمعايير التي تتلمذنا عليها ونشأنا في أحضانها على مستوى كلام ودروس ومحاضرات ومؤلفات أساتذتنا ، فما أكثر مواقف الإعجاب والتأثير التي اكتسبناها من مهاراتهم التعليمية والعلمية والعملية المختلفة .

( يتبع )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock