مقالات واراء

بين الفصحى والدارجة : المقبول والمرفوض

كتبه : د . مولاي علي الخاميري
أستاذ جامعي / مكتب مراكش

الحلقة الثالثة والأخيرة :

السياق الثاني هو سياق كتيب المصطفى بن سلطانة : ( بلاغة اللغة الدارجة وآفاق التأويل ) وسبق لي أن وصفته بأنه مشتت الأفكار ، ويغلب عليه من جهة المنهج طابع التجريب والاستكشاف ، وأظن أن ذلك يرجع إلى طبيعة الموضوع المُعالَج ، وأسبقية المؤلف فيه……. وأضيف أنه يفتقد إلى التأصيل أكثر في مجال اشتغاله النظري والعملي ، وإلى مزيد من العمق في نتائجه واستخلاصاته ، وهي أوصاف لا تقلل من شأن الكتاب نظرا لارتباطه بموضوع الموروث الغنائي النسائي المغربي في منطقة تارودانت ، ويتخذ من طريق الجمع والبحث والتوجيه الأولي المستفاد من التأمل الذاتي وسيلة للقراءة والتحليل ، وتتبع النصوص على مستوى الرواية الشفوية وما يتعلق بها من صعوبات ملاحظة في الكتاب بشكل جلي ، ثم ينتقل برؤية فكرية واعية إلى إبراز الملامح الإبداعية لدارجتنا في علاقتها بالفصحى ، وبطرقها الفكرية والمنهجية ، وهذا في نظري يعد إنجازا ثقافيا إضافيا ، وفتحا عريضا يشكر عليه المؤلف كثيرا ، لاسيما وقد مارسه كما قال بوعي ، يدفع السلب ، ويرحب بالإيجاب ، يقول في الصفحتين : 20 \ 21 عن المنحى الأول : ( ….فآثرت اشتغالا نقديا ضروريا يعيد الاعتبار لتراثنا القولي ، لا كمتون غنائية مختزلة في الاستهلاك الفني فقط ، بل تتجاوز ما تعرضت وتتعرض له منجزات تراثية من سلوكات محسوبة على البحث ، تقارب التراث عبر الأساليب الوصفية ، الاختزالية المتسرعة التي نعتبرها نتائج طبيعية لغياب وعي عميق ب ” سؤال التراث ” وكذا نزوة السبق التأليفي ، وَوَهْمِ فروسية ما ) .

ويقول عن المنحى الثاني : ( كما حاولت البحث في لغة المتون ، وأصولها البلاغية ، وكذا التواردات القاموسية ، واقتفاء أثر المهمل من أجزاء ل ” غنيات ” ورصد الألفاظ والمفردات الواردة في بعض ” الغنيات ” والتي غابت عن التداول اليومي ، والمعيش التواصلي الراهن ، وكذا البحث عنها في التراث الشعري العربي ، وبعض المنجزات الغنائية التراثية المغربية الأخرى قصد التعريف بها وبمدلولاتها……) .

ذلك التلاقح الموجود بين الدارجة والفصحى هو ما يهمنا ، ونبتغي الكشف عن أنسقته المتمددة والمتنوعة ، وسنسير فيه على نهج ما أسماه بن سلطانة ب ” التوارد القاموسي في الغناء النسائي الروداني ” انسجاما مع ما فعلناه أثناء حديثنا عن معجم محمد بوسلام .

ذكر ابن سلطانة هنا أربع كلمات هي :

– لعَارْم تجمع على عوارم .
– خُنَّارِي .
– لخَوْدَة .
– الصَّارِي .

وسأهتم باللفظين الأولين ” لعَارْم – خُنَّاري ” لسبب وهو أن الكاتب تركهما بلا أي توضيح من جهة المعنى الممكن بين الدارجة والفصحى بخلاف ما فعله باللفظين الأخيرين ” لخودة – الصاري ) .

قال الكاتب في الصفحة : 81 عن اللفظ الأول ما يلي : ( لفظة ” لعَارْم ” : ” عداية ” غناية ” الرقاص ” من نمط لكريحة :
لله يا رقاص دي هاد سلام لغزالي ” فلانة ”
هاد سلام رايسة ” لعوارم ”

ونجد لفظة ” لعارم ” وتجمع على ” لعوارم ” في شعر الملحون : ( نجبر ولفي ” عارم ” ما نقصها ربي من شاي…..) .
قل لداك اللايم………سلم تضحى سالم
من طعن سيوف انيام
ما بهضوك ” عوارم “…….ما لسعوك صوارم
ما دقت كيوس مدام . ) .

وقال في الصفحة : 82 عن اللفظ الثاني ” خُنَّارِي ” ما يلي :

من عداية غناية ” العشق ” من نمط ” لكريحة ” :
أصابغ جفر آمول الضراعة
آلالة ولالة
خُنَّارِي ” فلانة ”
صاحب لهوى كايتسنى .
ونجد لفظة ” خناري ” في شعر الملحون :
ارفق بحالة المغروم ” اخناري ” اياقوت راية النصر .
من قصيدة لناظمها ” المهدي العلوي ” القاطن بتارودانت إبان كتابتها والمؤرخة بتاريخ 1343هج ) .

وبما أن ابن سلطانة ربط الورود والمعنى بشعر الملحون فإننا سننطلق منه لبيان تلك العلاقة الجامعة ما بين الدارجة والفصحى ، يقول محمد الفاسي في كتابه ” معلمة الملحون ” الجزء الثاني ، القسم الأول الخاص بمعجم لغة الملحون ، الصفحة : 64 : ( خُنَّار : محبوبة يُهَامُ في حبها ، وتستولي على لب العاشق ) .

ويقول في الصفحة : 14 عن لفظ : ” عارم ” : ( عارم : شابة جميلة يجمع على عوارم ) .

وبالرجوع إلى الجزء الثاني من ” معجم الدارجة المغربية……) سنجد توسعا كبيرا ، واستطرادا ملحوظا في معاني اللفظين ، وفي متون مجموعة من القوالب الفنية والموسيقية المغربية ، يقول بوسلام في الصفحة : 43 عن لفظ ” الخُنَّار ” : ( الخُنَّار أصلها الجُلَّنَار وهو زهر الرمان بالفارسية ، قال فيديريكو كورينتي الخُنَّار ” تطلق على الحبيب عند الزجالين الأندلسيين ” في هذا الصدد يقول الزجال في الطرب الأندلسي من نوبة الرصد ، ميزان البطايحي ” نهوى لحاجب اكحل ، والخد جُلَّناري ، يامن يلوم لا تجهل ، دعني في عشقي جاري ” ويقول شيخ الملحون التهامي المدغري من قصيدة ” امينة ” الكاس بيننا يسطع بالخمرة ، ولا بحال نشوته سكرة ، والشمع واقد والسفرة ، والموال بنغمة على نشيد اقبال الخنار ، بين زرابي ولحوف رايقة ونغايم الاوتار……..) .

ويقول في الصفحة 596 عما يمكن إدخاله من معاني لفظ ” لعَارْم ” مما يتصل دوما بالمرأة : (……يقال في الدارجة المغربية جاري مزوج واحد العرمة ، أي المرأة الثخينة الغليظة التي تصعب عليها الحركة……) .

ويقرب من هذا المعنى مما يعد من معايير تقييم جمال المرأة ما أورده محمد شفيق في الجزء الثاني من ” المعجم العربي الأمازيغي ” الصفحة : 98 : ( ” العُرَام ” من الجيش ، أي الكثرة والشدة…….والمعنى الأصلي للعبارة هو : الطول والعرض…..) والمرأة ينظر إليها حين تقييم جمالها من الزاويتين المذكورتين .

على العموم لا يمكن بمثل هذا المقال وإن طال كثيرا الإلمام بمثل موضوع علاقة الفصحى بالدارجة المغربية وغيرها من الدوارج المحلية ، ومع ذلك فالشيء المؤكد هو وجود روابط حقيقية وحميمية ، قائمة على التأثير والتأثر بين المنحيين اللغويين ، ويكفي الاستدلال على ذلك بما قلناه ، وما يلاحظ على ساحة التخاطب بين المواطنين وفئاتهم المختلفة ، وكذلك ما يشهد به تداخل المنحى الإبداعي ، وحيازته على الإعجاب والانبهار ، وسموه في سماء الذوق والجمال ، ولاسيما على مستوى الدلالة وارتباطها بقيم المجتمع المعنوية والفنية .

وأريد أن أختم بتوجيه للباحثين في المجال لتنبيههم على ما يقعون فيه من أخطاء وانحسار لمجهودهم الفكري المبذول ، فالمنهج في نظري هو وسيلة وليس غاية ، ولهذا لا ينبغي تقديسه ، أو الإيمان به إلى درجة خنق النصوص المدروسة ، وجعلها منقادة بنسبة كبيرة لمقتضيات القواعد المنهجية المتحكمة ، فهذا لا يجوز ، وسيضيع علينا فرصا جديدة لاستنطاق النص ، والكشف عن أسراره ، كما أنه سيطمس ذات الباحث ، بل سيغيبها عن النص بمسافات عريضة ، وهو ما لا يمكن أن نشعر معه بالارتياح ، ونتوخى معه الوصول إلى نتائج ملموسة حقيقية ومرجوة ، وفي أحيان يقع التشويش على الباحثين إلى درجة أن كتبهم وبالرغم من الجهد والعراك المبذول إلا أنك تجد فيها فراغات وتقطعات ناشئة عن خوف أولئك الباحثين من ضوابط المناهج ، واضطرارهم إلى الرجوع للمبادئ المنهجية مرات عديدة ومتباعدة ، ونكوسهم المستمر والمتذبذب ، وقفزهم ما بين الفقرات والفصول بلا روابط ، وبوتيرة تشتت أكثر مما تجمع وتبني ، فنحصل في النهاية على مولود فكري مشوه الخلقة ، ومضطرب الأعضاء ، ومتفاوت الأحجام وأمكنتها مما ينتج عنه إخلال ، وتنشأ عنه فجوات تربك بنية الجسم الواحد ، وتطمس النظرة الجمالية إليه في نهاية المطاف .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock